وعن أبي جبلة قال سألت رضي الله عنهما فقلت : إنا نقدم أرض عبد الله بن عمر الشام ومعنا الورق الثقال النافقة ، وعندهم الورق الخفاف الكاسدة أفنبتاع ورقهم العشرة بتسعة ونصف ؟ فقال : لا تفعل ، ولكن بع ، ورقك بذهب ، واشتر ورقهم بالذهب ، ولا تفارقه حتى تستوفي ، وإن وثب من سطح فثب معه ، وفيه دليل رجوع رضي الله عنه عن قوله في جواز التفاضل كما هو مذهب ابن عمر رضي الله عنهما ، وأنه ابن عباس ، وأن المفتي إذا تبين جواب ما سئل عنه فلا بأس أن يبين للسائل الطريق الذي يحصل به مقصوده مع التحرز عن الحرام ، ولا يكون هذا مما هو مذموم من تعليم الحيل بل هو اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث { لا قيمة للجودة في النقود خيبر : هلا بعت تمرك بسلعة ، ثم اشتريت بسلعتك هذا التمر } ، وفيه دليل أن قال لعامل لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم : والفضل ربا ، وأن القليل من الفضل ، والكثير في كونه ربا سواء ، وأن التقابض قبل الافتراق في الصرف مستحق فإنه قال : وإن وثب من سطح فثب معه ; للتحرز عن مفارقة أحدهما صاحبه قبل القبض ، وعليه دل حديث القيام عن المجلس من غير افتراق لا يمنع بقاء العقد كليب بن وائل قال : سألت رضي الله عنهما عن الصرف فقال : من هذه إلى هذه يعني من يدك إلى [ ص: 5 ] يده ، وإن استنظرك إلى خلف هذه السارية فلا تفعل ، وإنما كنى بهذا اللفظ عن مفارقة أحدهما صاحبه قبل القبض ; لأن بالمفارقة يغيب عن بصره ، وبالاستتار بالسارية يغيب عن بصره أيضا فذكر ذلك على وجه الكتابة عن المفارقة لا أن يكون حقيقة السارية بينهما موجبا للافتراق فإن ابتداء العقد بينهما صحيح في هذه الحالة ، وكون السارية بينهما لا يعد افتراقا عرفا ابن عمر
وعن أنه كان محمد بن سيرين مخافة أن تكون الفضة التي أعطى أقل مما فيه ، ويكره أن يبيعه بالنسيئة ، ولا يرى بأسا بأن يبيعه بالذهب ، وبه نأخذ فنقول : بيعه بالذهب جائز بالنقد لقوله صلى الله عليه وسلم { يكره أن يباع السيف المحلى بالفضة بالنقرة } بعد أن يكون يدا بيد ولا يجوز بيعه بالنسيئة سواء باعه بالذهب أو الفضة ; لأن العقد في حصة الحلية صرف فاشتراط الأجل فيه مفسد ، ولا ينزع الحلية من السيف إلا بضرر ففساد العقد فيها يفسد في الكل دفعا للضرر ، أما بيعها بالفضة فعلى أربعة أوجه : إن كان يعلم أن فضة الحلية أكثر فهو فاسد ، وكذلك إن كانت الحلية مثل النقد في الوزن لأن الجفن والحمائل فضل خال عن العوض فإن مقابلة الفضة بالفضة في البيع تكون بالإجزاء ، وإن كان يعلم أن الفضة في الحلية أقل جاز العقد على أن يجعل المثل بالمثل ، والباقي بإزاء الجفن والحمائل عندنا خلافا : إذا اختلفت النوعان فبيعوا كيف شئتم وإن كان لا يدري أيهما أقل فالبيع فاسد عندنا ; لعدم العلم بالمساواة عند العقد وتوهم الفضل للشافعي
وعند هذا يجوز فإن الأصل الجواز ، والمفسد هو الفضل الخالي عن العوض فما لم يعلم به يكون العقد مملوكا بجوازه ، وقد بينا هذا في البيوع عن { زفر أبي بصرة قال : سألت رضي الله عنهما عن الصرف قال : لا بأس به يدا بيد ، وسألت ابن عمر رضي الله عنهما فقال مثل ذلك فقعدت في حلقة فيها ابن عباس رضي الله عنه فأمرني رجل فقال : سله عن الصرف ، فقلت : إن هذا يأمرني أن أسألك عن الصرف ، فقال لي : الفضل ربا ، فقال : سله أمن قبل رأيه يقول ، أو شيء سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فذكرت ذلك له فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل يكون في نخله برطب طيب فقال صلى الله عليه وسلم : من أين هذا ؟ فقال : أعطيت صاعين من تمر رديء وأخذت هذا ، فقال صلى الله عليه وسلم : أربيت ، فقال : إن سعر هذا في السوق كذا ، وسعر هذا كذا ، فقال صلى الله عليه وسلم : أربيت ، ثم قال صلوات الله عليه : هلا بعته بسلعة ثم ابتعت بسلعتك تمرا أبو سعيد } فقال رضي الله عنه : الفضل في التمر ربا [ ص: 6 ] والدراهم مثله ، فقال أبو سعيد أبو بصرة فلقيت بعد ذلك رضي الله عنهما فقال : لا خير فيه ، وأمرت ابن عمر فسأل أبا الصهباء رضي الله عنهما عن الصرف فقال : لا خير فيه ، وفي هذا دليل رجوع ابن عباس ابن عمر رضي الله عنهما عن فتواهما بجواز التفاضل وابن عباس
وقد روي أن رضي الله عنه لما سمع هذه الفتوى عن عليا رضي الله عنهما فقال : إنك رجل تائه ، وعن ابن عباس الشعبي قال : حدثني بضعة عشر نفرا من أصحاب رضي الله عنهما الخبر فالخبر أنه رجع عن فتواه فقال : الفضل حرام ، وقال ابن عباس رضي الله عنه ما خرج جابر بن زيد رضي الله عنه من الدنيا حتى رجع عن قوله في الصرف والمتعة فعلم أن ابن عباس مجمع عليه في الصدر الأول ، وأن قضاء القاضي بخلافه باطل ، وفيه دليل أنهم كانوا يسمعون حكما في حادثة فيلحقون بها ما في معناها فإن حرمة التفاضل رضي الله عنه ذكر أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم روى الحديث في التمر وبين أن الدراهم مثله ، وفيه دليل على أن أبا سعيد ، لأنه لو كان هذا قياسا فالقياس استنباط بالرأي ، وما كان يقول بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه دليل أنه لا بأس النص في شيء يكون نصا فيما هو في معناه من كل وجه إذا كان أهلا لذلك فإن للمستفتي أن يطالب المفتي بالدليل رضي الله عنه لم ينكر عليه ذلك ، وأنه لا بأس أبا سعيد كما فعله هذا الرجل ، وإن كان احتشم للإنسان أن يأمر غيره بالاستفتاء ، وإن كان هو المحتاج إليه رضي الله عنه فلم يسأله بنفسه كما روي أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يجلسون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن على رءوسهم الطير ، وكان يعجبهم أن يدخل أعرابي ليسأله ليستفيدوا بسؤاله ، أو علم هذا الرجل بقول أبا سعيد ابن عمر رضي الله عنهما ، ولم يعجبه أن يظهر الإنكار عليهما فأمر غيره حتى سأل وابن عباس رضي الله عنه فيطالبه بالدليل ليتبين ما هو الصواب فيحصل المقصود من غير أن يستوحش أحد ، وهذا أقرب إلى حسن العشرة . أبا سعيد الخدري