يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس أخبر عنهم بالمصدر للمبالغة كأنهم عين النجاسة ، أو المراد ذوو نجس لخبث بواطنهم وفساد عقائدهم أو لأن معهم أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملابسة لهم ، وجوز أن يكون ( الشرك الذي هو بمنزلة النجس نجس ) صفة مشبهة وإليه ذهب الجوهري ، ولا بد حينئذ من تقدير موصوف مفرد لفظا مجموع معنى ليصح الإخبار به عن الجمع أي جنس نجس ونحوه ، وتخريج الآية على أحد الأوجه للذكورة هو الذي يقتضيه كلام أكثر الفقهاء حيث ذهبوا إلى أن أعيان المشركين طاهرة ولا فرق بين عبدة الأصنام وغيرهم من أصناف الكفار في ذلك ، وروي عن رضي الله تعالى عنهما أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير ، وأخرج ابن عباس ، أبو الشيخ عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " وابن مردويه من صافح مشركا فليتوضأ أو ليغسل كفيه " . وأخرج عن ابن مردويه هشام بن عروة عن أبيه عن جده قال : " جبريل عليه السلام فناوله يده فأبى أن يتناولها فقال : يا جبريل ما منعك أن تأخذ بيدي؟ فقال : إنك أخذت بيد يهودي فكرهت أن تمس يدي يدا قد مستها يد كافر، فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بماء فتوضأ فناوله يده فتناولها " وإلى ما روي عن استقبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رضي الله تعالى عنهما مال الإمام ابن عباس وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية ولا يعدل عنه إلا بدليل منفصل ، قيل : وعلى ذلك فلا يحل الشرب من أوانيهم ولا مؤاكلتهم ولا لبس ثيابهم لكن صح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والسلف خلافه ، واحتمال كونه قبل نزول الآية فهو منسوخ بعيد ، والاحتياط لا يخفى ، والاستدلال على طهارتهم بأن أعيانهم لو كانت نجسة ما أمكن بالإيمان طهارتها إذ لا يعقل كون الإيمان مطهرا ، ألا ترى أن الخنزير لو قال : لا إله إلا الله الرازي محمد رسول الله لا يطهر ، وإنما يطهر نجس العين بالاستحالة على قول من يرى ذلك، وعين الكافر لم تستحل بالإيمان عينا أخرى ليس بشيء، وإن ظنه من تهوله القعقعة شيئا ، لأن الطهارة والنجاسة أمران تابعان لما يفهم من كلام الشارع عليه الصلاة والسلام وليستا مربوطتين بالاستحالة وعدمها، فإذا فهم منه نجاسة شيء في وقت وطهارته في وقت آخر أو ما بالعكس كما في الخمر اتبع، وإن لم يكن هناك استحالة وذلك ظاهر ، وقرأ ابن السميقع ( أنجاس ) على صيغة الجمع ، وقرأ أبو حيوة ( نجس ) بكسر النون وسكون الجيم وهو تخفيف نجس ككبد في كبد ، ويقدر حينئذ موصوف كما قررناه آنفا فيما قاله الجوهري ، وأكثر ما جاء هذا اللفظ تابعا لرجس ، وقول الفراء وتبعه الحريري في درته إنه لا يجوز ذلك بغير اتباع ترده هذه القراءة إذ لا اتباع فيها فلا يقربوا المسجد الحرام تفريع على نجاستهم والمراد النهي عن الدخول إلا أنه نهي عن القرب للمبالغة .
وأخرج عبد الرزاق والنحاس عن [ ص: 77 ] أنهم عطاء الحرم كله فيكون المنع من قرب نفس المسجد على ظاهره ، وبالظاهر أخذ نهوا عن دخول رضي الله تعالى عنه إذ صرف المنع عن دخول الحرم إلى المنع من الحج والعمرة ، ويؤيده قوله تعالى : أبو حنيفة بعد عامهم هذا فإن تقييد النهي بذلك يدل على اختصاص المنهي عنه بوقت من أوقات العام أي: لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسعة من الهجرة حين أمر رضي الله تعالى عنه على الموسم، ويدل عليه نداء أبو بكر كرم الله تعالى وجهه يوم نادى ببراءة ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك وكذا قوله سبحانه : علي وإن خفتم عيلة أي فقرا بسبب منعهم لما أنهم كانوا يأتون في الموسم بالمتاجر فإنه إنما يكون إذا منعوا من دخول الحرم كما لا يخفى .
والحاصل أن الإمام الأعظم يقول بالمنع عن الحج والعمرة ويحمل النهي عليه ولا يمنعون من دخول المسجد الحرام وسائر المساجد عنده ، ومذهب ، الشافعي ، وأحمد رضي الله تعالى عنهم كما قال ومالك الخازن أنه لا يجوز للكافر ذميا كان أو مستأمنا أن يدخل المسجد الحرام بحال من الأحوال، فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام فيه لم يأذن له في دخوله بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارجه ، ويجوز دخوله سائر المساجد عند عليه الرحمة ، وعن الشافعي مالك: وزعم بعضهم أن المنع في الآية إنما هو عن تولي كل المساجد سواء في منع الكافر عن دخولها، المسجد الحرام والقيام بمصالحه وهو خلاف الظاهر جدا، والظاهر النهي على ما علمت ، وكون العلة فيه نجاستهم إن لم نقل بأنها ذاتية لا يقتضي جواز الفعل ممن اغتسل ولبس ثيابا طاهرة لأن خصوص العلة لا يخصص الحكم كما في الاستبراء ، والكلام على حد- لا أرينك هنا - فهو كناية عن نهي المؤمنين عن تمكينهم مما ذكر بدليل أن ما قبل وما بعد خطاب للمؤمنين ، ومن حمله على ظاهره استدل به على أن الكفار مخاطبون بالفروع حيث إنهم نهوا فيه والنهي من الأحكام، وكونهم لا ينزجرون به لا يضر بعد معرفة معنى مخاطبتهم بها .
يروى أنه لما جاء النهي شق ذلك على المؤمنين وقالوا : من يأتينا بطعامنا وبالمتاع فأنزل الله سبحانه وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله أي : عطائه أو تفضيله بوجه آخر ( فمن ) على الأول ابتدائية أو تبعيضية وعلى الثاني سببية ، وقد أنجز الله تعالى وعده بأن أرسل السماء عليهم مدرارا ووفق أهل نجد وتبالة وجرش فأسلموا وحملوا إليهم الطعام وما يحتاجون إليه في معاشهم، ثم فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجه إليهم الناس من كل فج عميق ، وعن أنه فسر الفضل بالجزية ، ويؤيد بأن الأمر الآتي شاهد له وما ذكرناه أولى وأمر الشهادة هين وقرئ ( عائلة ) على أنه إما مصدر كالعاقبة والعافية أو اسم فاعل صفة لموصوف مؤنث مقدر أي حالا عائلة أي مفتقرة، وتقييد الإغناء بقوله سبحانه : ابن جبير إن شاء ليس للتردد ليشكل بأنه لا يناسب المقام وسبب النزول، بل لبيان أن ذلك بإرادته لا سبب له غيرها حتى ينقطعوا إليه سبحانه ويقطعوا النظر عن غيره ، وفيه تنبيه على أنه سبحانه متفضل بذلك الإغناء لا واجب عليه عز وجل لأنه لو كان بالإيجاب لم يوكل إلى المشيئة ، وجوز أن يكون التقييد لأن الإغناء ليس مطردا بحسب الأفراد والأحوال والأوقات إن الله عليم بأحوالكم ومصالحكم ( حكيم ) فيما يعطي ويمنع .