والسابقون الأولون من المهاجرين بيان لفضائل أشراف المسلمين إثر بيان طائفة منهم، والمراد بهم كما روي عن سعيد وقتادة وجماعة الذين صلوا إلى القبلتين، وقال وابن سيرين عطاء بن رباح: هم أهل بدر وقال هم أهل بيعة الرضوان وكانت الشعبي: بالحديبية، وقيل: هم الذين أسلموا قبل الهجرة و (الأنصار) أهل بيعة العقبة الأولى وكانت في سنة إحدى عشرة من البعثة وكانوا على ما في بعض الروايات سبعة نفر وأهل بيعة العقبة الثانية وكانت في سنة اثنتي عشرة وكانوا سبعين رجلا وامرأتين والذين أسلموا حين جاءهم من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو زرارة مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وكان قد أرسله عليه الصلاة والسلام مع أهل العقبة الثانية يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين والذين اتبعوهم بإحسان أي متلبسين به، والمراد كل خصلة حسنة، وهم اللاحقون بالسابقين من الفريقين على أن (من) تبعيضة أو الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة فالمراد بالسابقين جميع المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم، ومعنى كونهم سابقين أنهم أولون بالنسبة إلى سائر المسلمين وكثير من الناس ذهب إلى هذا . روي عن حميد بن زياد أنه قال: قلت يوما لمحمد بن كعب القرظي: ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما كان بينهم من الفتن؟ فقال لي: إن الله تعالى قد غفر لجميعهم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم . فقلت له: في أي موضع أوجب لهم الجنة؟ فقال: سبحان الله ألا تقرأ قوله تعالى: والسابقون الأولون الآية فتعلم أنه تعالى أوجب لجميع أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الجنة والرضوان وشرط على التابعين شرطا . قلت: وما ذلك الشرط؟ قال: شرط عليهم أن يتبعوهم بإحسان وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة ولا يقتدوا بهم في غير ذلك أو يقال: هو أن يتبعوهم [ ص: 8 ] بإحسان في القول وأن لا يقولوا فيهم سوءا وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه، قال حميد بن زياد: فكأني ما قرأت هذه الآية قط، وعلى هذا تكون الآية متضمنة من رضي الله تعالى عنهم ما لم تتضمنه على التقدير الأول فضل الصحابة
واعترض القطب على التفاسير السابقة للسابقين من المهاجرين بأن الصلاة إلى القبلتين وشهود بدر وبيعة الرضوان مشتركة بين المهاجرين والأنصار . وأجيب بأن مراد من فسر تعيين سبقهم لصحبتهم ومهاجرتهم له صلى الله تعالى عليه وسلم على من عداهم من ذلك القبيل . واختار الإمام أن المراد بالسابقين من المهاجرين السابقون في الهجرة ومن السابقين من الأنصار السابقون في النصرة وادعى أن ذلك هو الصحيح عنده، واستدل عليه بأنه سبحانه ذكر كونهم سابقين ولم يبين أنهم سابقون في ماذا فبقي اللفظ مجملا إلا أنه تعالى لما وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارا علم أن المراد من السبق السبق في الهجرة والنصرة إزالة للإجمال عن اللفظ، وأيضا كل واحدة من الهجرة والنصرة لكونه فعلا شاقا على النفس طاعة عظيمة فمن أقدم عليه أولا صار قدوة لغيره في هذه الطاعة وكان ذلك مقويا لقلب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وسببا لزوال الوحشة عن خاطره الشريف عليه الصلاة والسلام، فلذلك أثنى الله تعالى على كل من كان سابقا إليهما وأثبت لهم ما أثبت، وكيف لا وهم آمنوا وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وضعف فقوي الإسلام بسببهم وكثر عدد المسلمين بإسلامهم وقوي قلبه صلى الله تعالى عليه وسلم بسبب دخولهم في الإسلام واقتداء غيرهم بهم فكان حالهم في ذلك كحال من سن سنة حسنة وفي الخبر: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ولا يخفى أنه حسن
ويجوز عندي أن يراد بالسابقين الذين سبقوا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر واتخاذ ما ينفقون قربات والقرينة على ذلك ظاهرة وأيا ما كان فالسابقون مبتدأ خبره قوله تعالى: رضي الله عنهم أي بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم ورضوا عنه بما نالوه من النعم الجليلة الشأن . وجوز أن يكون الخبر أبو البقاء الأولون أو من المهاجرين وأن يكون السابقون معطوفا على من يؤمن أي ومنهم السابقون وما ذكرناه أظهر الوجوه . وعن رضي الله تعالى عنه أنه قرأ (والأنصار) بالرفع على أنه معطوف على عمر السابقون
وأخرج أبو عبيدة وابن جرير وغيرهم عن وابن المنذر عمرو بن عامر الأنصاري أن رضي الله تعالى عنه كان يقرأ بإسقاط الواو من (والذين اتبعوهم) فيكون الموصول صفة عمر الأنصار حتى قال له زيد: إنه بالواو فقال: ائتوني بأبي بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك فقال: هي بالواو فتابعه . وأخرج عن أبو الشيخ أبي أسامة ومحمد بن إبراهيم التيمي قالا: مر برجل يقرأ عمر بن الخطاب والذين بالواو فقال: من أقرأك هذه؟ فقال: فأخذ به إليه فقال: يا أبي أبا المنذر أخبرني هذا أنك أقرأته هكذا . قال : صدق وقد تلقنتها كذلك من في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم . فقال أبي أنت تلقنتها كذلك من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فقال: نعم فأعاد عليه فقال في الثالثة وهو غضبان: نعم والله لقد أنزلها الله على عمر: جبريل عليه السلام وأنزلها جبريل على قلب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يستأمر فيه الخطاب ولا ابنه فخرج رافعا يديه وهو يقول الله أكبر الله أكبر عمر
وفي رواية أخرجها أيضا عن أبو الشيخ أن محمد بن كعب أبيا رضي الله تعالى عنه قال رضي الله تعالى عنه: تصديق هذه الآية في أول الجمعة لعمر وآخرين منهم وفي أوسط الحشر والذين جاءوا من بعدهم وفي آخر الأنفال والذين آمنوا من بعد إلخ ومراده رضي الله تعالى عنه أن هذه الآيات تدل على أن التابعين غير الأنصار [ ص: 9 ] وفيها أن رضي الله تعالى عنه قال: لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا وأراد اختصاص السبق عمر بالمهاجرين، وظاهر تقديم المهاجرين على الأنصار مشعر بأنهم أفضل منهم وهو الذي يدل عليه قصة السقيفة، وقد جاء في فضل الأنصار ما لا يحصى من الأخبار، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنس الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار آية الإيمان حب
وأخرج عن الطبراني السائب بن يزيد مكة من قريش وغيرهم فغضب الأنصار فأتاهم فقال: يا معشر الأنصار قد بلغني من حديثكم في هذه المغانم التي آثرت بها أناسا أتألفهم على الإسلام لعلهم أن يشهدوا بعد اليوم وقد أدخل الله تعالى قلوبهم الإسلام ثم قال: يا معشر الإسلام ألم يمن الله تعالى عليكم بالإيمان وخصكم بالكرامة وسماكم بأحسن الأسماء أنصار الله تعالى وأنصار رسوله عليه الصلاة والسلام ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس واديا وسلكتم واديا لسلكت واديكم أفلا ترضون أن يذهب الناس بهذه الغنائم البعير والشاء وتذهبون برسول الله؟ فقالوا: رضينا . فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أجيبوني فيما قلت قالوا: يا رسول الله وجدتنا في ظلمة فأخرجنا الله بك إلى النور وجدتنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا الله بك، وجدتنا ضلالا فهدانا الله تعالى بك فرضينا بالله تعالى ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم نبيا فقال عليه الصلاة والسلام: لو أجبتموني بغير هذا القول لقلت: صدقتم لو قلتم: ألم تأتنا طريدا فآويناك؟ ومكذبا فصدقناك؟ ومخذولا فنصرناك؟ وقبلنا ما رد الناس عليك؟ لصدقتم قالوا: بل لله تعالى ولرسوله المن والفضل علينا وعلى غيرنا فانظر كيف قال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكيف أجابوه رضى الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قسم الفيء الذي أفاء الله تعالى بحنين في أهل وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار أي هيأ لهم ذلك في الآخرة . وقرأ (من تحتها) وأكثر ما جاء في القرآن موافق لهذه القراءة (خالدين فيها أبدا) من غير انتهاء ابن كثير ذلك الفوز العظيم 100 أي الذي لا فوز وراءه، وما في ذلك من معنى البعد قيل لبيان بعد منزلتهم في الفضل وعظم الدرجة من مؤمني الأعراب ولا يخفى أن هذا لا يكاد يصح إلا بتكلف ما إذا أريد من الذين اتبعوهم صنف آخر غير الصحابة لأن الظاهر أن مؤمني الأعراب صحابة ولا يفضل غير صحابي صحابيا كما يدل عليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: وقوله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه . من باب المبالغة أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره