كانت مودة سلمان له نسبا ولم يكن بين نوح وابنه رحم
أو ليس من أهلك الذين أمرتك بحملهم في الفلك لخروجه عنهم بالاستثناء، وحكي هذا عن ابن جرير والأول عن وعكرمة، رضي الله تعالى عنهما، وعلى القولين ليس هو من الذين وعد بإنجائهم، وكأنه لما كان دعاؤه عليه السلام بتذكير وعده جل ذكره مبنيا على كون كنعان من أهله نفى أولا كونه منهم ثم علل عدم كونه منهم على طريقة الاستئناف التحقيقي بقوله سبحانه ابن عباس إنه عمل غير صالح وأصله إنه ذو عمل فاسد فحذف ذو للمبالغة بجعله عين عمله لمداومته عليه، ولا يقدر المضاف لأنه حينئذ تفوت المبالغة المقصودة منه، ونظير ذلك ما في قول الخنساء ترثي أخاها صخرا:ما أم سقب على بو تحن له قد ساعدتها على التحنان آظار
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال وإدبار
يوما بأوجع حين فارقني صخر وللعيش إحلاء وإمرار
وقرأ الكسائي (إنه عمل غير صالح) على صيغة الفعل الماضي ونصب غير وهي قراءة ويعقوب كرم الله تعالى وجهه علي وابن عباس وأنس وقد روتها هي وعائشة، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والأصل عمل عملا غير صالح وبه قرئ أيضا كما روي عن وأم سلمة فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه وذلك شائع مطرد عند انكشاف المعنى وزوال اللبس، وضعفه بعضهم هنا بأن العرب لا تكاد تقول: عكرمة، عمل غير صالح وإنما تقول عمل عملا غير صالح، وليس بشيء وأيد بهذه القراءة كون ضمير إنه في القراءة الأولى لابن نوح لأنه فيها له قطعا فيضعف ما قيل: إنه في الأولى لترك الركوب معهم والتخلف عنهم أي إن ذلك الترك عمل غير صالح على أنه خلاف الظاهر في نفسه كما لا يخفى، ومثله في ذلك ما قيل: إنه لنداء نوح عليه السلام، أي إن نداءك هذا عمل غير صالح، وتخرج بذلك الجملة عن أن تكون تعليلا لما تقدم ويفوت ما في ذاك من الفائدة، ولا يكون الكلام على مساق واحد، نعم روي عن ما يقتضيه فقد أخرج ابن عباس ابن أبي حاتم عنه أنه قال: إن نساء الأنبياء عليهم السلام لا يزنين ومعنى الآية مسألتك إياي يا وأبو الشيخ نوح عمل غير صالح لا أرضاه لك.
وفي رواية عنه سؤالك ما ليس به علم عمل غير صالح، ولعل ذلك لم يثبت عن هذا الخبر لأن الظاهر من الرواية الأولى أنه إنما جعل الضمير للمسألة دون ابن ابن جرير نوح لما في ذلك من نسبة الزنا إلى من لا ينسب إليه، وهو رضي الله تعالى عنه أجل قدرا من أن يخفى عليه أنه لا يلزم من ذلك هذا المحذور، ثم إنه لما كان دعاؤه عليه السلام مبنيا على كون كنعان من أهله وقد نفي ذلك وحقق ببيان علته فرع على ذلك النهي عن سؤال إنجائه إلا أنه جيء بالنهي على وجه عام يندرج فيه ما ذكر اندراجا أوليا فقال سبحانه: فلا تسألني [ ص: 70 ] أي إذا وقفت على جلية الحال فلا تطلب مني ما ليس لك به علم أي مطلبا لا تعلم يقينا أن حصوله صواب وموافق للحكمة على تقدير كون (ما) عبارة عن المسؤول الذي هو مفعول للسؤال، أو طلبا لا تعلم أنه صواب على تقدير كونه عبارة عن المصدر الذي هو مفعول مطلق فيكون النهي واردا بصريحه في كل من معلوم الفساد ومشتبه الحال، قاله شيخ الإسلام وجوز أن يكون ما ليس لك علم بأنه صواب أو غير صواب وهو الذي ذهب إليه القاضي فيكون النهي واردا في مشتبه الحال، ويفهم منه حال معلوم الفساد بالطريق الأولى وأيا ما كان فهو عام يندرج تحته ما نحن فيه كما ذكرنا، وسمي النداء سؤالا لتضمنه إياه وإن لم يصرح به كما لا يخفى، وبه على ما نقل عن أبي علي إما متعلق بما يدل عليه العلم المذكور وإن لم يتسلط عليه كقوله:
ربيته حتى إذا تمعددا كان جزائي بالعصا أن أجلدا
وقيل: إن السؤال عن موجب عدم النجاة مع ما فيه من الجرأة، وشبه الاعتراض فيه أنه تعين له عليه السلام أنه من المستثنين بهلاكه، فهو غير سديد كيف ونداؤه ذاك مما يقطر منه الاستعطاف.
وقيل: إن النهي إنما هو سؤال ما لا حاجة إليه إما لأنه لا يهم أو لأنه قامت القرائن على حاله لا عن السؤال للاسترشاد فلا ضير إذن في كلام القاضي وهو كما ترى. ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر. فالحق أن ذلك مسألة الإنجاء وكان قبل تحقق الغرق عند رؤية المشارفة عليها، ولم يكن عالما بكفره إذ ذاك لأنه لم يكن مجاهرا به وإلا لم يدع له بل لم يدعه أيضا ولا تكن مع الكافرين لا يدل على أنه كافر عنده بل هو نهي عن الدخول في غمارهم وقطع بأنه ذلك يوجب الغرق على الطريق البرهاني كما قدمنا، وكأنه عليه السلام حمل مقاولته على غير المكابرة والتعنت لغلبة المحبة وذهوله عن إعطاء التأمل حقه، فلذلك طلب ما طلب فعوتب بأن مثله في معرض الإرشاد والقيام بأعباء الدعوة تلك المدة المتطاولة لا ينبغي أن يشتبه عليه كلام المسترشد والمعاند، ويرجع هذا إلى ترك الأولى، وهو المراد بقوله سبحانه: إني أعظك أن تكون من الجاهلين .
وذكر شيخ الإسلام أن اعتزاله قصده الالتجاء إلى الجبل ليس بنص في الإصرار على الكفر لظهور جواز أن يكون ذلك لجهله بانحصار النجاة في الفلك وزعمه أن الجبل أيضا يجري مجراه، أو لكراهة الاحتباس في الفلك، بل قوله سآوي إلى جبل يعصمني من الماء بعد ما قال له نوح ولا تكن مع الكافرين ربما يطمعه عليه السلام في إيمانه حيث لم يقل أكون معهم أو سنأوي أو يعصمنا، فإن إفراد نفسه بنسبة الفعلين المذكورين [ ص: 71 ] ربما يشعر بانفراده من الكافرين واعتزاله عنهم وامتثاله ببعض ما أمره به نوح عليه السلام إلا أنه عليه السلام لو تأمل في شأنه حق التأمل وتفحص عن أحواله في كل ما يأتي وما يذر لما اشتبه عليه أنه ليس بمؤمن وأنه مستثنى من أهله؛ ولذلك قيل له: (إني) إلخ وهو ظاهر في أن مدار العتاب لاشتباهه كما ذكرنا، وإليه ذهب قال: إن الله تعالى قدم إليه عليه السلام الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم، فكان عليه أن يعتقد أن في الجملة من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح، وأن كلهم ليسوا بناجين وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنى لا من المستثنى منهم، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه، وكأنه أراد أن الاستثناء دل على أن المعنى المعتبر الصلاح لا القرابة فكان ينبغي أن يجعله الأصل ويتفحص في الأهل عن وجوده، وأن يجعل كلهم سواسية في استحقاق العذاب إلا من علم صلاحه وإيمانه لا أن يجعل كونه من الأهل أصلا فيسأل إنجاءه مع الشك في إيمانه، فقد قصر فيما كان عليه بعض التقصير وأولي العزم مؤاخذون بالنقير والقطمير وحسنات الأبرار سيئات المقربين، الزمخشري وابن المنير لم يرض كون ذلك عتابا قال: وفي كلام ما يدل على أنه يعتقد أن نوحا عليه السلام صدر منه ما أوجب نسبة الجهل إليه ومعاتبته على ذلك، وليس الأمر كما تخيله ثم قال: ونحن نوضح أن الحق في الآية منزل عن نصها مع تبرئة الزمخشري نوح عليه السلام مما توهم نسبته إليه فنقول: لما وعد عليه السلام بتنجية أهله إلا من سبق عليه القول منهم ولم يكن كاشفا لحال ابنه ولا مطلعا على باطن أمره بل كان معتقدا بظاهر الحال أنه مؤمن بقي على التمسك بصيغة العموم للأهلية الثابتة ولم يعارضها يقين في كفر ابنه حتى يخرج من الأهل ويدخل في المستثنين، فسأل الله تعالى فيه بناء على ذلك فبين له أنه في علمه من المستثنين وأنه هو لا علم له بذلك فلذلك سأل فيه، وهذا بأن يكون إقامة عذر أولى منه من أن يكون عتابا، فإن نوحا عليه السلام لا يكلفه الله تعالى علم ما استأثر به غيبا، وأما قوله سبحانه: الزمخشري إني أعظك إلخ.. فالمراد النهي عن وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه سبحانه باطن أمره، وأنه إن وقع في المستقبل في السؤال كان من الجاهلين، والغرض من ذلك تقديم ما يبقيه عليه السلام على سمت العصمة، والموعظة لا تستدعي وقوع ذنب بل المقصد منها أن لا يقع الذنب في الاستقبال ولذلك امتثل عليه السلام ذلك واستعاذ بالله سبحانه أن يقع منه ما نهي عنه كما يدل عليه قوله سبحانه: