قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ولا يخفى سقوطه على ما علمت وهو خلاف الظاهر جدا، وقد جاء عن الفضيل بن عياض أنه قال: بلغني أن نوحا عليه السلام بكى عن قول الله تعالى له ما قال أربعين يوما، وأخرج في الزهد عن أحمد وهيب بن الورد الحضرمي قال: لما عاتب الله تعالى نوحا في ابنه وأنزل عليه إني أعظك بكى ثلثمائة عام حتى صار تحت عينيه مثل الجدول من البكاء.
وزعم أن السؤال قبل الغرق ومع العلم بكفره، وذلك أن الواحدي نوحا عليه السلام لم يعلم أن سؤاله ربه نجاة ولده محظور عليه مع إصراره على الكفر حتى أعلمه الله تعالى ذلك، واعترض بأنه إذا كان عالما بكفره مع التصريح بأن في أهله من يستحق العذاب كان طلب النجاة منكرا من المناكير فتدبر، والظاهر على ما قررنا أن قوله: (رب) إلخ توبة مما وقع منه عليه السلام و(ما) هنا أيضا عبارة إما عن المسؤول أو عن السؤال، أي أعوذ بك أن أطلب منك من بعد مطلوبا لا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة أو طلبا لا أعلم أنه صواب سواء كان معلوم الفساد أو مشتبه الحال، أو لا أعلم أنه صواب أو غير صواب، ولم يقل أعوذ بك منه أو من ذلك مبالغة في التوبة [ ص: 72 ] وإظهارا للرغبة والنشاط فيها وتبركا بذكر ما لقنه الله تعالى وهو أبلغ من أن يقول: أتوب إليك أن أسألك لما فيه من الدلالة على كون ذلك أمرا هائلا محذورا لا محيص منه إلا بالعوذ بالله تعالى، وأن قدرته عليه السلام قاصرة عن النجاة من المكاره إلا بذلك كما في إرشاد العقل السليم، واحتمال أن يكون فيه رد وإنكار نظير ما في البقرة من قول موسى عليه السلام أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين مما لا يكاد يمر بفكر أحد من الجاهلين.
هذا وفي مصحف (إنه عمل غير صالح) أن تسألني، ورجح به كون ضمير (إنه) في القراءة المتواترة للنداء المتضمن للسؤال، وقرأ ابن مسعود (فلا تسألن) بفتح اللام وتشديد النون مفتوحة وهي قراءة ابن كثير رضي الله تعالى عنهما، وكذا قرأ ابن عباس نافع غير أنهما كسرا النون على أن أصله تسألني، فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء ثم حذفت الياء اكتفاء بالكسرة، وقرأ وابن عامر أبو جعفر وشيبة رضي الله تعالى عنهما كذلك إلا أنهم أثبتوا الياء بعد النون وأمره ظاهر، وقرأ وزيد بن علي الحسن وابن أبي مليكة (تسالني) من غير همز من سال يسال فهما يساولان وهي لغة سائرة، وقرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام وكسر النون وتخفيفها، وأثبت الياء في الوصل ورش وحذفها الباقون وأبو عمرو، وإلا تغفر لي ما صدر عني من السؤال المذكور وترحمني بقبول توبتي أكن من الخاسرين أعمالا بسبب ذلك، وتأخير ذكر هذا عن حكاية الأمر الوارد على الأرض والسماء وما يتلوه مع أن حقه أن يذكر عقيب قوله سبحانه: فكان من المغرقين حسبما وقع في الخارج على ما علمت من أن النداء كان لطلب الإنجاء قبل العلم بالهلاك، قيل: ليكون على أسلوب قصة البقرة في سورتها دلالة على استقلال هذا المعنى بالغرض لما فيه من النكت من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب وأن لا يقدم في الأمور الدينية الأصولية إلا بعد اليقين، وتعقب بالفرق بين ما هنا وما هناك عند من كان ذا قلب وما ذكر من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب إلخ لا يفوت على تقدير سوق الكلام على ترتيب الوقوع أيضا.
واختار بعض المحققين أن ذلك لأن ذكر هذا النداء كما ترى مستدع لما مر من الجواب المستدعي لذكر توبته عليه السلام المؤدي إلى ذكر قبولها في ضمن الأمر بهبوطه عليه السلام من الفلك بالسلام والبركات الفائضة عليه وعلى المؤمنين حسبما يجيء إن شاء الله تعالى، ولا ريب أن هذه المعاني آخذ بعضها بحجزة بعض بحيث لا تكاد تفرق الآيات الكريمة المنطوية عليها بعضها من بعض، وأن ذلك إنما بتمام القصة وذلك إنما يكون بتمام الطوفان فلا جرم اقتضى الحال ذكر تمامها قبل هذا النداء، وهو إنما يكون عند ذكر كون كنعان من المغرقين، ولهذه النكتة ازداد حسن موقع الإيجاز البليغ، وفيه فائدة أخرى هي التصريح بهلاكه من أول الأمر ولو ذكر النداء بعد فكان من المغرقين لربما توهم من أول الأمر إلى أن يرد إنه ليس من أهلك إلخ أنه ينجو بدعائه فنص على هلاكه، ثم ذكر القصة على وجه أفحم مصاقع البلغاء، ثم تعرض لما وقع في تضاعيف ذلك مما جرى بين نوح عليه السلام ورب العزة جلت حكمته وعلت كلمته، ثم ذكر بعد توبته عليه السلام قبولها بقوله عز وجل: