وقيل: إنه كان في قفرة بعيدة من العمران فأخطأوا الطريق فأصابوه فأرسلوا إليه واردهم الذي يرد الماء ويستقي لهم وكان ذلك مالك بن ذعر الخزاعي.
وقال الوارد هنا يمكن أن يقع على الواحد وعلى الجماعة اهـ، والظاهر الأول، والتأنيث في (جاءت) والتذكير في أرسلوا و واردهم) باعتبار اللفظ والمعنى، وفي التعبير بالمجيء إيماء إلى كرامة ابن عطية: يوسف عليه السلام عند ربه سبحانه، وحذف متعلقه وكذا متعلق الإرسال لظهوره، ولذا حذف المتعلق في قوله سبحانه: فأدلى دلوه أي أرسلها إلى الجب ليخرج الماء، ويقال: دلا الدلو إذا أخرجها ملأى، والدلو من المؤنثات للسماعية فتصغر على دلية وتجمع على أدل ودلاء ودلي.
وقال ابن الشحنة: إن الدلو التي يستقى بها مؤنثة وقد تذكر، وأما الدلو مصدر دلوت وضرب من السير فمذكر ومثلها في التذكير والتأنيث الجب عند الفراء على ما نقله عنه محمد بن الجهم، وعن بعضهم أنه مذكر لا غير، وأما البئر مؤنثة فقط في المشهور، ويقال في تصغيرها: بويرة، وفي جمعها آبار وأبآر وأبؤر وبئار، وفي الكلام حذف أي فأدلى دلوه فتدلى بها يوسف فخرج (قال) استئناف مبني على سؤال يقتضيه الحال.
يا بشرى هذا غلام نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه ورفقته كأنه نزلها منزلة شخص فناداه، فهو استعارة مكنية وتخييلية أي يا بشرى تعالي فهذا أوان حضورك، وقيل: المنادى محذوف كما في يا ليت أي يا قومي انظروا واسمعوا بشراي، وقيل: إن هذه الكلمة تستعمل للتبشير من غير قصد إلى النداء.
وزعم بعضهم أن بشرى اسم صاحب له ناداه ليعينه على إخراجه، وروي هذا عن -وليس بذاك- وقرأ غير الكوفيين -يا بشراي- بالإضافة، وأمال فتحة الراء السدي حمزة وقرأ والكسائي، بين اللفظين. ورش
وروي عن أنه قرأ -يا بشراي- بسكون ياء الإضافة ويلزمه التقاء الساكنين على غير حده واعتذر بأنه أجرى الوصل مجرى الوقف ونظائر ذلك كثيرة في القرآن وغيره، وقيل: جاز ذلك لأن الألف لمدها تقوم مقام الحركة، وقرأ نافع أبو الطفيل والحسن وابن أبي إسحاق والجحدري (يا بشري) بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء الإضافة -وهي لغة لهذيل ولناس غيرهم- ومن ذلك قول أبي ذؤيب: سبقوا (هوي) وأعنقوا لهواهم فتخرموا ولكل جنب مصرع
ويقولون: يا سيدي ومولي، و –الغلام- كثيرا ما يطلق على ما بين الحولين إلى البلوغ، وقد يطلق على الرجل الكامل كما في قول ليلى الأخيلية في الحجاج بن يوسف الثقفي:
غلام إذا هز القناة سقاها
والظاهر أن التنوين فيه للتفخيم، وحق له ذلك فقد كان عليه من أحسن الغلمان، وذكر عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: البغوي يوسف شطر الحسن. أعطيوقال محمد بن إسحاق: ذهب يوسف وأمه بثلثي الحسن، وحكى عن الثعلبي أنه قال: كان [ ص: 204 ] كعب الأحبار يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العينين مستوي الخلق أبيض اللون غليظ الساعدين والساقين خميص البطن صغير السرة، وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه، وإن تكلم رأيت شعاع النور من ثناياه ولا يستطيع أحد وصفه وكان حسنه كضوء النهار عند الليل وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه قبل أن يصيب الخطيئة، ويحكى أن جوانب الجب بكت عليه حين خرج منها، ولعله من باب بكت الدار لفقد فلان، والظاهر أن قول الوارد يا بشرى هذا غلام كان عند رؤيته، وقيل: إنه حين وروده على أصحابه صاح بذاك وأسروه أي أخفاه الوارد وأصحابه عن بقية الرفقة حتى لا تراه فتطمع فيه، وقيل: أخفوا أمره وكونه وجد في البئر، وقالوا لسائر القافلة: دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر، وقيل: الضمير لإخوة يوسف، وذلك أن بعضهم رجع ليتحقق أمره فرآه عند السيارة فأخبر إخوته فجاءوا إليهم فقالوا: هذا غلام أبق لنا فاشتروه فاشتروه وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه، وفي رواية أنهم قالوا بالعبرانية: لا تنكر العبودية نقتلك فأقر بها واشتروه منهم، وقيل: كان يهوذا يأتيه بالطعام فأتاه يوم أخرج فلم يجده في الجب ووجده عند الرفقة فأخبر إخوته فأتوهم فقالوا ما قالوا، وروي كون الضمير للأخوة عن رضي الله تعالى عنهما، قيل: وهو المناسب لإفراد (قال) وجمع ضمير –أسروا- وللوعيد الآتي قريبا إن شاء الله تعالى، وليس فيه اختلال في النظم، ولا يخفى أن الظاهر ما أشير إليه أولا، ونصب قوله سبحانه: ابن عباس بضاعة على الحال أي أخفوه حال كونه متاعا للتجارة، وفي الفرائد أنه ضمن أسروه معنى جعلوه أي جعلوه بضاعة مسرين إياه فهو مفعول به.
وقال يحتمل أن يكون مفعولا له أي لأجل التجارة وليس شرطه مفقودا لاتحاد فاعله وفاعل الفعل المعلل به إذ المعنى كتموه لأجل تحصيل المال به، ولا يجوز أن يكون تمييزا وهو من –البضع- بمعنى القطع وكأن البضاعة إنما سميت بذلك لأنها تقطع من المال وتجعل للتجارة، ومن ذلك البضع بالكسر لما بين الثلاث إلى العشرة أو لما فوق الخمس ودون العشرة، والبضيعة للجزيرة المنقطعة عن البر، واعتبر الراغب في البضاعة كونها قطعة وافرة من المال تقتنى للتجارة ولم يعتبر الكثير كونها وافرة ابن الحاجب: والله عليم بما يعملون لم يخف عليه سبحانه أسرارهم، وصرح غير واحد أن هذا وعيد لإخوة يوسف عليه السلام على ما صنعوا بأبيهم وأخيهم وجعلهم إياه، وهو هو عرضة للابتذال بالبيع والشراء