ثم إنه تعالى بعد أن ذكر ما ذكر أردفه بما يفيده تأكيدا مع زيادة سجود ما لا ظل له فقال سبحانه ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض أو أنه سبحانه بعد ما بين سجود الظلال وذويها من الأجرام السفلية الثابتة في أحيازها ودخورها له سبحانه شرع في شأن سجود المخلوقات المتحركة بالإرادة سواء كانت لها ظلال أم لا؟ فقال عز من قائل ما قال، والمراد بالسجود على ما ذكره غير واحد الانقياد سواء كان انقيادا لإرادته وتأثيرها طبعا أو انقيادا لتكليفه وأمره طوعا ليصح إسناده إلى عامة أهل السماوات والأرض من غير جمع بين الحقيقة والمجاز ولكون الآية آية سجدة لا بد من دلالتها على السجود المتعارف ولو ضمنا، والاسم الجليل متعلق- بـ يسجد- والتقدير لإفادة القصر وهو ينتظم القلب والإفراد إلا أن الأنسب بحال المخاطبين قصر الأفراد كما يؤذن به قوله تعالى: وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين أي له تعالى وحده ينقاد ويخضع جميع ما في السماوات وما في الأرض من دابة بيان لما فيهما بناء على أن الدبيب هو الحركة الجسمانية سواء كان في أرض أو سماء، والملائكة أجسام لطيفة غير مجردة وتقييد الدبيب بكونه على وجه الأرض لظهوره أو لأنه أصل معناه وهو عام هنا بقرينة المبين، وقوله سبحانه: والملائكة عطف على محل الدابة المبين به وهو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف لأن ( من ) البيانية لا تكون ظرفا لغوا وهو من عطف الخاص على العام إفادة لعظم شأن الملائكة عليهم السلام، وجوز أن يكون من عطف المباين بناء على أن يراد بما في السماوات الجسمانيات ويلتزم القول بتجرد الملائكة عليهم السلام فلا يدخلون فيما في السماوات لأن المجردات ليست في حيز وجهة وبعضهم استدل بالآية على تجرد الملائكة بناء على أن ما في السماوات وما في الأرض بين أحدهما بالدابة والآخر بالملائكة والأصل في التقابل التغاير، والدابة المتحركة حركة جسمانية فلا يكون مقابلها من الأجسام وأن الجسم لا بد فيه من حركة جسمانية، ولا يخفى أنه دليل إقناعي إذ يحتمل كونه تخصيصا بعد تعميم كما سمعت آنفا أو هو بيان لما في الأرض، والدابة اسم لما يدب على الأرض ( والملائكة ) عطف على ما في السماوات وهو تكرير له وتعيين إجلالا وتعظيما، وذكر غير واحد أنه من عطف الخاص على العام لذلك أيضا، وجوز أن يراد مما في السماوات الخلق الذين يقال لهم الروح [ ص: 158 ] ويلتزم القول بأنهم غير الملائكة عليهم السلام فيكون من عطف المباين أو هما بيان لما في الأرض، والمراد بالملائكة عليهم السلام ملائكة يكونون فيها كالحفظة والكرام الكاتبين ولا يراد بالدابة ما يشملهم، و «ما» إذا قلنا: إنها مختصة بغير العقلاء كما يشهد له خبر ابن الزبعرى فاستعمالها هنا في العقلاء وغيرهم للتغليب، وأما إن قلنا: إن وضعها لأن تستعمل في غير العقلاء وفيما يعم العقلاء وغيرهم كالشبح المرئي الذي لا يعرف أنه عاقل أولا فإنه يطلق عليه ما حقيقة فالأمر على ما قيل غير محتاج إلى تغليب، وفي أنوار التنزيل إن (ما) لما استعمل للعقلاء كما استعمل لغيرهم كان استعماله حيث اجتمع القبيلان أولى من إطلاق من تغليبا، وفي الكشاف أنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب فكان متناولا للعقلاء خاصة فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة العموم وهو جواب عن سبب اختيار ما على من، وحاصله على ما في الكشف أن من للعقلاء والتغليب مجاز فلو جيء بغير قرينة تعين الحقيقة والمقام يقتضي التعميم فجيء بما يعم وهو ما، وأراد أن لا دليل في اللفظ، وقرينة العموم في السابق لا تكفي لجواز تخصيصهم من البين بعد التعميم على أن اقتضاء المقام العموم وما في التغليب من الخصوص كاف في العدول انتهى. وقيل بناء على أن ما مختصة بغير العقلاء ومن مختصة بالعقلاء: إن الإتيان بما وارتكاب التغليب أوفق بتعظيم الله تعالى من الإتيان بمن وارتكاب ذلك فليفهم وهم أي الملائكة مع علو شأنهم لا ( يستكبرون ) عن عبادته تعالى شأنه والسجود له، وتقديم الضمير ليس للقصر، والسين ليست للطلب وقيل: له على معنى لا يطلبون ذلك فضلا عن فعله والاتصاف به.
وإذا قلنا إن صيغة المضارع للاستمرار التجددي فالمراد استمرار النفي. والجملة إما حال من فاعل ( يسجد ) مسندا إلى الملائكة أو استئناف للإخبار عنهم، بذلك، وإنما لم يجعل الضمير- لما- لاختصاصه بأولي العلم وليس المقام مقام التغليب، وخالف في ذلك بعضهم فجعله لها وكذا الضمير في قوله سبحانه: