وضرب الله مثلا أي مثلا آخر يدل على ما يدل عليه المثل السابق على وجه أظهر وأوضح، وأبهم ثم بين بقوله تعالى: رجلين أحدهما أبكم لما تقدم والبكم الخرس المقارن للخلقة ويلزمه الصمم فصاحبه لا يفهم لعدم السمع ولا يفهم غيره لعدم النطق، والإشارة لا يعتد بها لعدم تفهيمها حق التفهيم لكل أحد فكأنه قيل: أحدهما أخرس أصم لا يفهم ولا يفهم لا يقدر على شيء من الأشياء المتعلقة بنفسه أو غيره بحدس أو فراسة لسوء فهمه وإدراكه وهو كل ثقيل وعيال على مولاه على من يعوله ويلي أمره، وهذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح نفسه بعد ذكر عدم قدرته مطلقا، وقوله سبحانه:
[ ص: 197 ] أينما يوجهه لا يأت بخير أي حيثما يرسله مولاه في أمر لا يأت بنجح وكفاية مهم، بيان لعدم قدرته على مصالح مولاه. وقرأ عبد الله في رواية «توجهه» على الخطاب، وقرأ علقمة وابن رئاب ومجاهد وهي رواية أخرى عن وطلحة عبد الله «يوجه» بالبناء للفاعل والجزم، وخرج على أن الفاعل يعود على المولى والمفعول محذوف وهو ضمير الأبكم أي يوجهه، ويجوز أن يكون ضمير الفاعل عائدا على الأبكم ويكون الفعل لازم وجه بمعنى توجه، وعلى ذلك جاء قول الأضبط بن قريع السعدي:
أينما أوجه ألق سعدا وعن علقمة وعائشة أيضا «يوجه» بالجزم والبناء للمفعول، وفي رواية أخرى عن وابن وثاب علقمة أنهما قرءا «يوجه» بكسر الجيم وضم الهاء، قال صاحب اللوامح: فإن صح ذلك فالهاء التي هي لام الفعل محذوفة فرارا من التضعيف أو لم يرد- بأينما- الشرط، والمراد أينما هو يوجه وقد حذف منه ضمير المفعول به فيكون حذف الياء من آخر «يأت» للتخفيف، وتعقبه وطلحة بأن أين لا تخرج عن الشرط أو الاستفهام. ونقل عن أبي حاتم أن هذه القراءة ضعيفة لأن الجزم لازم، ثم قال: والذي توجه به هذه القراءة أن (أينما) شرط حملت على إذا بجامع ما اشتركا فيه من الشرط ثم حذفت ياء (يأت) تخفيفا أو جزم على توهم أنه جيء بأينما جازمة كقراءة من قرأ- إنه من يتقي ويصبر- في أحد الوجهين، ويكون معنى يوجه يتوجه كما مر آنفا أبو حيان هل يستوي هو أي ذلك الأبكم الموصوف بتلك الصفات المذكورة ومن يأمر بالعدل ومن هو منطيق فهم ذو رأي ورشد يكفي الناس في مهماتهم وينفعهم بحثهم على العدل الجامع لمجامع الفضائل وهو في نفسه مع ما ذكر من نفعه الخاص والعام على صراط مستقيم لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي، فالجملة حالية مبنية لكماله في نفسه ولما كان ذلك مقدما على تكميل الغير أتى بها اسمية فإنها تشعر بذلك مع الثبوت إلى مقارنة ذي الحال. فلا يقال: الأنسب تقديمها في النظم الكريم، ومقابلة تلك الصفات الأربع بهذين الوصفين لأنهما كمال ما يقابلها ونهايته فاختير آخر صفات الكامل المستدعية لما ذكر وأزيد حيث جعل هاديا مهديا، وتغيير الأسلوب حيث لم يقل: والآخر يأمر بالعدل الآية لمراعاة الملاءمة بينه وبين ما هو المقصود من بيان التباين بين الفريقين، ويقال هنا كما قيل في المثل السابق: إنه حيث لم يستو الفريقان في الفضل والشرف مع استوائهما في الماهية والصورة فلأن يحكم بأن الصنم الذي لا ينطق ولا يسمع وهو عاجز لا يقدر على شيء كل على عابده يحتاج إلى أن يحمله ويضعه ويمسح عنه الأذى إذا وقع عليه ويخدمه وإن وجهه إلى أي مهم من مهماته لا ينفعه ولا يأت له به لا يساوي رب العالمين وهو- هو- في استحقاق المعبودية أحرى وأولى، وقيل: هذا تمثيل للمؤمن والكافر فالأبكم هو الكافر ومن يأمر بالعدل هو المؤمن، وروي ذلك عن رضي الله تعالى عنهما، وأيا ما كان فليس المراد- برجلين- رجلان معينان بل رجلان متصفان بما ذكر من الصفات مطلقا، وما روي من أن الأبكم ابن عباس أبو جهل والآمر بالعدل أو الأبكم عمار أبي بن خلف والآمر عثمان بن مظعون فقال : لا يصح إسناده، وما أخرج أبو حيان ابن جرير وغيرهما عن وابن عساكر أنه قال: نزلت هذه الآية ابن عباس وضرب الله مثلا رجلين إلخ في ومولى له كافر وهو عثمان بن عفان أسيد بن أبي العيص كان يكره الإسلام وكان ينفي عليه ويكفله ويكفيه المؤنة وكان الآخر ينهاه عن الصدقة والمعروف فنزلت فيهما فبعد تحقق [ ص: 198 ] صحته لا يضرنا في إرادة الموصوفين مطلقا بحيث يدخل فيهما من ذكر فقد صرحوا بأن خصوص السبب لا ينافي العموم. عثمان
هذا وقد اقتصر شيخ الإسلام على كون الغرض من التمثيلين نفي المساواة بينه جل جلاله وبين ما يشركون، وهو دليل على أنه مختاره ثم قال: اعلم أن كلا الفعلين ليس المراد بهما حكاية الضرب الماضي بل المراد إنشاؤه بما ذكر عقيبه، ولا يبعد أن يقال: إن الله تعالى ضرب مثلا بخلق الفريقين على ما هما عليه فكان خلقهما كذلك للاستدلال بعدم تساويهما على امتنان التساوي بينه سبحانه وتعالى وبين ما يشركون فيكون كل من الفعلين حكاية للضرب الماضي اهـ، ولا يخفى أنه لا كلام في حسن اختياره لكن في النفس من قوله لا يبعد شيء.