ولم يجعل له عوجا قيما قد تقدم في التفسير أن الضمير المجرور عائد على ( الكتاب ) وجعله بعض أهل التأويل عائدا على عبده أي: لم يجعل له عليه الصلاة والسلام انحرافا عن جنابه وميلا إلى ما سواه، وجعله مستقيما في عبوديته سبحانه، وجعل الأمر في قوله تعالى: فاستقم كما أمرت أمر تكوين لينذر بأسا شديدا من لدنه وهو بأس الحجاب والبعد عن الجناب، وذلك أشد العذاب كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات وهي الأعمال التي أريد بها وجه الله تعالى لا غير، وقيل: العمل الصالح التبري من الوجود بوجود الحق أن لهم أجرا حسنا وهي رؤية المولى ومشاهدة الحق بلا حجاب فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا فيه إشارة إلى مزيد شفقته صلى الله عليه وسلم واهتمامه وحرصه على موافقة المخالفين وانتظامهم في سلك الموافقين إنا جعلنا ما على الأرض من الأنهار والأشجار والجبال والمعادن والحيوانات زينة لها أي: لأهلها لنبلوهم أيهم أحسن عملا فيجعل ذلك مرآة لمشاهدة أنوار جلاله وجماله سبحانه عز وجل، وقال ابن عطاء: حسن العمل الإعراض عن الكل، وقال حسن العمل اتخاذ ذلك عبرة وعدم الاشتغال به. وقال بعضهم: أهل المعرفة بالله تعالى والمحبة له هم زينة الأرض، وحسن العمل النظر إليهم بالحرمة. الجنيد:
وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا كناية عن ظهور فناء ذلك بظهور الوجود الحقاني والقيامة الكبرى أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا قال قدس الله سره: أي: لا تتعجب منهم فشأنك أعجب من شأنهم حيث أسرى بك ليلا من الجنيد المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وبلغ بك سدرة المنتهى، وكنت في القرب كقاب قوسين أو أدنى، ثم ردك قبل انقضاء الليل إلى مضجعك.
إذ أوى الفتية إلى الكهف قيل: هم فتيان المعرفة الذين جبلوا على سجية الفتوة، وفتوتهم إعراضهم عن غير الله تعالى فأووا إلى الكهف الخلوة به سبحانه فقالوا حين استقاموا في منازل الأنس ومشاهد القدس وهيجهم ما ذاقوا إلى طلب الزيادة والترقي في مراقي السعادة ربنا آتنا من لدنك رحمة معرفة كاملة وتوحيدا عزيزا وهيئ لنا من أمرنا رشدا بالوصول إليك والفناء فيك فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا كناية عن جعلهم مستغرقين فيه سبحانه فانين به تعالى عما سواه ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا إشارة إلى ردهم إلى الصحو بعد السكر والبقاء بعد الفناء، ويقال أيضا: هو إشارة إلى الجلوة بعد الخلوة، وهما قولان متقاربان نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم الإيمان العلمي وزدناهم هدى بأن أحضرناهم وكاشفناهم وربطنا على قلوبهم سكناها عن التزلزل بما أسكنا فيها من اليقين فلم يسنح فيها هواجس التخمين ولا وساوس الشياطين، ويقال أيضا: رفعناها من حضيض التلوين إلى أوج التمكين.
إذ قاموا بنا لنا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض مالك أمرهما ومدبرهما فلا قيام لهما إلا بوجوده المفاض من بحار جوده لن ندعو من دونه إلها إذ ما من شيء إلا وهو محتاج إليه سبحانه فلا يصلح لأن يدعى لقد قلنا إذا شططا كلاما بعيدا عن الحق مفرطا في الظلم، واستدل بعض المشايخ بهذه الآية على أنه ينبغي للسالكين إذا أرادوا الذكر وتحلقوا له أن يقوموا فيذكروا قائمين، قال ابن الغرس: وهو استدلال [ ص: 259 ] ضعيف لا يقوم به المدعي على ساق.
وأنت تعلم أنه لا بأس بالقيام والذكر لكن على ما يفعله المتشيخون اليوم فإن ذلك لم يكن في أمة من الأمم ولم يجئ في شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم بل لعمري إن تلك الحلق حبائل الشيطان وذلك القيام قعود في بحبوحة الخذلان.
وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله أي: وإذ خرجتم عن صحبة أهل الهوى وأعرضتم عن السوي فأووا إلى الكهف فاخلوا بمحبوبكم ينشر لكم ربكم من رحمته مطوي معرفته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ما تنتفعون به من أنوار تجلياته ولطائف مشاهداته، قال بعض العارفين: العزلة عن غير الله تعالى توجب الوصلة بالله عز وجل بل لا تحصل الوصلة إلا بعد العزلة، ألا ترى كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجنب بغار حراء حتى جاءه الوحي وهو فيه وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه لئلا يكثر الضوء في الكهف فيقل معه الحضور، فقد ذكروا أن الظلمة تعين على الفكر وجمع الحواس، ومن هنا ترى أهل الخلوة يختارون لخلوتهم مكانا قليل الضياء ومع هذا يغمضون أعينهم عند المراقبة.
وفي أسرار القرآن: أن في الآية إشارة إلى أن الله تعالى حفظهم عن الاحتراق في السبحات فجعل شمس الكبرياء تزاور عن كهف قربهم ذات يمين الأزل وذات شمال الأبد، وهم في فجوة وصال مشاهدة الجمال والجلال محروسون محفوظون عن قهر سلطان صرف الذات الأزلية التي تتلاشى الأكوان في أول بوادي إشراقها.
وفي الحديث: «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره».
وقيل في تأويله: إن شمس الروح أو المعرفة والولاية إذا طلعت من أفق الهداية وأشرقت في سماء الواردات وهي حالة السكر وغلبة الوجد لا تنصرف في خلوتهم إلى أمر يتعلق بالعقبى وهو جانب اليمين وإذا غربت؛ أي: سكنت تلك الغلبة وظهرت حالة الصحو لا تلتفت همم أرواحهم إلى أمر يتعلق بالدنيا وهو جانب الشمال بل تنحرف عن الجهتين إلى المولى وهم في فراغ عما يشغلهم عن الله تعالى.
وذكر أن فيه إشارة إلى أن نور ولايتهم يغلب نور الشمس ويرده عن الكهف كما يغلب نور المؤمن نار جهنم وليس هذا بشيء، وإن روي عن ابن عطاء. من يهد الله فهو المهتد الذي رفعت عنه الحجب ففاز بما فاز ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا لأنه لا يخذله سبحانه إلا لسوء استعداده ومتى فقد الاستعداد تعذر الإرشاد وتحسبهم أيقاظا وهم رقود إشارة إلى أنهم مع الخلق بأبدانهم ومع الحق بأرواحهم، وقال ابن عطاء: هم مقيمون في الحضرة كالنومى لا علم لهم بزمان ولا مكان، أحياء موتى صرعى مفيقون، نومى منتبهون ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال أي: ننقلهم من عالم إلى عالم، وقال ابن عطاء: نقلبهم في حالتي القبض والبسط والجمع والفرق، وقال آخر: نقلبهم بين الفناء والبقاء والكشف والاحتجاب والتجلي والاستتار، وقيل: في الآية إشارة إلى أنهم في التسليم كالميت في يد الغاسل وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد قال أبو بكر الوراق: مجالسة الصالحين ومجاورتهم غنيمة وإن اختلف الجنس؛ ألا ترى كيف ذكر الله سبحانه كلب أصحاب الكهف معهم لمجاورته إياهم.
وقيل: أشير بالآية إلى أن كلب نفوسهم نائمة معطلة عن الأعمال، وقيل: يمكن أن يراد أن نفوسهم صارت بحيث تطيعهم جميع الأحوال وتحرسهم عما يضرهم لو اطلعت عليهم أي: لو اطلعت من حيث أنت على ما ألبستهم من لباس قهر ربوبيتي وسطوات عظمتي لوليت منهم أي: من رؤية ما عليهم من هيبتي وعظمتي فرارا ولملئت منهم رعبا [ ص: 260 ] كما فر موسى كليمي من رؤية عصاه حين قلبتها حية وألبستها ثوبا من عظمتي وهيبتي، وهذا الفرار حقيقة منا؛ لأنه من عظمتنا الظاهرة في هاتيك المرآة كذا قرره غير واحد وروي عن رضي الله تعالى عنه. جعفر الصادق
وكذلك بعثناهم رددناهم إلى الصحو بعد السكر ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم لأنهم كانوا مستغرقين لا يعرفون اليوم من الأمس ولا يميزون القمر من الشمس، وقيل: إنهم استقلوا أيام الوصال وهكذا شأن عشاق الجمال فسنة الوصل في سنتهم سنة، وسنة الهجر سنة، ويقال: مقام المحب مع الحبيب وإن طال قصير، وزمان الاجتماع وإن كثر يسير؛ إذ لا يقضى من الحبيب وطر وإن فني الدهر، ومر ولا يكاد يعد المحب الليال إذا كان قرير العين بالوصال كما قيل:
أعد الليالي ليلة بعد ليلة وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا
ثم إنهم لما رجعوا من السكر إلى الصحو ومن الروحانية إلى البشرية طلبوا ما يعيش به الإنسان واستعملوا حقائق الطريقة؛ وذلك قوله تعالى: فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف والإشارة فيه أولا إلى أن اللائق بطالبي الله تعالى ترك السؤال، ويرد به على المتشيخين الذين دينهم وديدنهم السؤال وليته كان من الحلال. وثانيا: إلى أن اللائق بهم أن لا يختص أحدهم بشيء دون صاحبه، ألا ترى كيف قال قائلهم: بورقكم هذه فأضاف الورق إليهم جملة، وقد كان فيما يروى فيهم الراعي ولعله لم يكن له ورق. وثالثا: إلى أن اللائق بهم استعمال الورع؛ ألا ترى كيف طلب القائل الأزكى وهو على ما في بعض الروايات الأجل، ولذلك قال ذو النون: العارف من لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، والعجب أن رجلا من المتشيخين كان يأخذ من بعض الظلمة دنانير مقطوعا بحرمتها فقيل له في ذلك فقال: نعم؛ هي جمرات ولكن تطفئ حرارة جوع السالكين، ومع هذا وأمثاله له اليوم مرقد يطوف به من يزور، وتوقد عليه السرج وتنذر له النذور، ورابعا إلى أنه ينبغي لهم التواصي بحسن الخلق وجميل الرفق، ألا ترى كيف قال قائلهم: وليتلطف بناء على أنه أمر بحسن المعاملة مع من يشتري منه.
وقال بعض أهل التأويل: إنه أمر باختيار اللطيف من الطعام لأنهم لم يأكلوا مدة، فالكثيف يضر بأجسامهم، وقيل: أرادوا اللطيف لأن أرواحهم من عالم القدس ولا يناسبها إلا اللطيف، وعن يوسف بن الحسين أنه كان يقول: إذا اشتريت لأهل المعرفة شيئا من الطعام فليكن لطيفا، وإذا اشتريت للزهاد والعباد فاشتر كل ما تجد لأنهم بعد في تذليل أنفسهم، وقال بعضهم: طعام أهل المجاهدات وأصحاب الرياضات ولباسهم الخشن من المأكولات والملبوسات، والذي بلغ المعرفة فلا يوافقه إلا كل لطيف، ويروى عن الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره أنه كان في آخر أمره يلبس ناعما ويأكل لطيفا. وعندي أن التزام ذلك يخل بالكمال، وما يروى عن الشيخ قدس سره وأمثاله إن صح يحتمل أن يكون أمرا اتفاقيا، وعلى فرض أنه كان عن التزام يحتمل أنه كان لغرض شرعي وإلا فهو خلاف المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن كبار أصحابه رضي الله تعالى عنهم، فقد بين في الكتب الصحيحة حالهم في المأكل والملبس وليس فيها ما يؤيد كلام يوسف بن الحسين وأضرابه. والله تعالى أعلم.
ولا يشعرن بكم أحدا أي: من [ ص: 261 ] الأغيار المحجوبين عن مطالعة الأنوار والوقوف على الأسرار إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم بأحجار الإنكار أو يعيدوكم في ملتهم التي اجتمعوا عليها ولم ينزل الله تعالى بها من سلطان ولن تفلحوا إذا أبدا لأن الكفر حينئذ يكون كالكفر الإبليسي ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله إرشاد إلى محض التجريد والتفريد، ويحكى عن بعض كبار الصوفية أنه أمر بعض تلامذته بفعل شيء فقال: أفعله إن شاء الله تعالى، فقال له الشيخ بالفارسية ما معناه: يا مجنون، فإذا من أنت، والآية تأبى هذا الكلام غاية الإباء، وفيه على مذهب أهل الوحدة أيضا ما فيه، وقيل: الآية نهي عن أن يخبر صلى الله عليه وسلم عن الحق بدون إذن الحق سبحانه. ففيه إرشاد للمشايخ إلى أنه لا ينبغي لهم التكلم بالحقائق بدون الإذن ولهم أمارات للإذن يعرفونها.
واذكر ربك إذا نسيت قيل: أي: إذا نسيت الكون بأسره حتى نفسك فإن الذكر لا يصفو إلا حينئذ، وقيل: إذا نسيت الذكر، ومن هنا قال قدس سره: الجنيد الفناء بالمذكور عن الذكر، وقال قدس سره في قوله تعالى: حقيقة الذكر وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا إن فوق الذكر منزلة هي أقرب منزلة من الذكر وهي تجديد النعوت بذكره سبحانه لك قبل أن تذكره جل وعلا.
ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا زعم بعض أهل التأويل أن مجموع ذلك خمس وعشرون سنة، واعتبر السنة التي في الآية شهرا وهو زعم لا داعي إليه إلا ضعف الدين ومخالفة جماعة المسلمين، وإلا فأي ضرر في إبقاء ذلك على ظاهره وهو أمر ممكن أخبر به الصادق، ومما يدل على إمكان هذا اللبث أن أبا علي ابن سينا ذكر في باب الزمان من الشفاء أن أرسطو ذكر أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف قال ويدل التاريخ على أنهم قبل أصحاب الكهف. انتهى. أبو علي:
وفي الآية على ما قيل إشارة إلى أن المريد الذي يربيه الله سبحانه بلا واسطة المشايخ يصل في مدة مديدة وسنين عديدة والذي يربيه جل جلاله بواسطتهم يتم أمره في أربعينيات، وقد يتم في أيام معدودات، وأنا أقول: لا حجر على الله سبحانه، وقد أوصل جل وعلا كثيرا من عباده بلا واسطة في سويعات له تعالى شأنه: غيب السماوات عالم العلو والأرض عالم السفل، ولا يخفى أن عنوان الغيبة إنما هو بالنسبة إلى المخلوقين وإلا فلا غيب بالنسبة إليه جل جلاله، ومن هنا قال بعضهم: إنه سبحانه لا يعلم الغيب بمعنى أنه لا غيب بالنسبة إليه تعالى ليتعلق به العلم، لكن أنت تعلم أنه لا يجوز التكلم بمثل هذا الكلام، وإن أول بما أول لما فيه ظاهرا من مصادمة الآيات.
وإلى الله تعالى نشكو أقواما ألغزوا الحق وفتنوا بذلك الخلق.
أبصر به وأسمع أي: ما أبصره تعالى وما أسمعه؛ لأن صفاته عين ذاته ما لهم من دونه من ولي إذ لا فعل لأحد سواه تعالى ولا يشرك في حكمه أحدا لكمال قدرته سبحانه وعجز غيره عز شأنه، هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.