وقرأ ( وهن ) بكسر الهاء ، وقرئ بضمها أيضا الأعمش واشتعل الرأس شيبا شبه الشيب في البياض والإنارة بشواظ النار وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها، ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ففي الكلام استعارتان تصريحية تبعية في (اشتعل) ومكنية في الشيب ، وانفكاكها عن التخييلية مما عليه المحققون من أهل المعاني على أنه يمكن على بعد القول بوجود التخييلية هنا أيضا . وتكلف بعضهم لزعمه عدم جواز الانفكاك وعدم ظهور وجود التخييلية إخراج ما في الآية مخرج الاستعارة التمثيلية وليس بذاك ، وأسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وأخرج مخرج التمييز للمبالغة وإفادة الشمول، فإن إسناد معنى إلى ظرف ما اتصف به زمانيا أو مكانيا يفيد عموم معناه لكل ما فيه في عرف التخاطب فقولك : اشتعل بيته نارا يفيد احتراق جميع ما فيه دون اشتعل نار بيته .
وزعم بعضهم أن (شيبا) نصب على المصدرية لأن معنى (اشتعل الرأس) شاب ، وقيل هو حال أي شائبا وكلا القولين لا يرتضيهما كامل كما لا يخفى ، واكتفى باللام عن الإضافة لأن تعريف العهد المقصود هنا يفيد ما تفيده ، ولما كان تعريف (العظم) السابق للجنس كما علمت لم يكتف به وزاد قوله (مني) وبالجملة ما أفصح هذه الجملة وأبلغها ، ومنها أخذ ابن دريد قوله :
واشتعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في جزل الغضاء
وعن أنه أدغم السين في الشين أبي عمرو ولم أكن بدعائك رب شقيا أي : لم أكن بدعائي إياك خائبا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل بل كلما دعوتك استجبت لي ، والجملة معطوفة على ما قبلها ، وقيل حال من ياء المتكلم إذ المعنى واشتعل رأسي وهو غريب ، وهذا توسل منه عليه السلام بما سلف منه تعالى من الاستجابة عند كل دعوة إثر تمهيد ما يستدعي الرحمة من كبر السن وضعف الحال فإنه تعالى بعد ما عود عبده الإجابة دهرا طويلا لا يكاد يخيبه أبدا لا سيما عند اضطراره وشدة افتقاره ، وفي هذا التوسل من الإشارة إلى عظم كرم الله عز وجل ما فيه .
وقد حكي أن حاتما الطائي ، وقيل معن بن زائدة أتاه محتاج فسأله وقال : أنا الذي أحسنت إليه وقت كذا فقال : مرحبا بمن توسل بنا إلينا وقضى حاجته ، وقيل المعنى ولم أكن بدعائك إياي إلى الطاعة شقيا بل [ ص: 61 ] كنت ممن أطاعك وعبدك مختصا فالكاف على هذا فاعل والأول أظهر وأولى وروي ذلك عن رضي الله تعالى عنهما ، والتعرض في الموضعين لوصف الربوبية المنبئة عن إفاضة ما فيه صلاح المربوب مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام لا سيما توسيطه بين كان وخبرها لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع . ابن عباس
وقد جاء في بعض الآثار أن العبد إذا قال في دعائه : يا رب قال الله تعالى له : لبيك عبدي .
وروي أن موسى عليه السلام قال يوما في دعائه : يا رب فقال الله سبحانه وتعالى له : لبيك يا موسى، فقال موسى : أهذا لي خاصة فقال الله تبارك وتعالى : لا ولكن لكل من يدعوني بالربوبية.
، وقيل : إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه فليدع الله تعالى بما يناسبه من أسمائه وصفاته عز وجل