وقيل : المراد به القرآن وهو المحكي عن محمد بن كعب القرظي واختاره وقتادة معللا ذلك بأنه ليس يسمع كل واحد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يراه ، والقرآن ظاهر باق على ممر الأيام والدهور يسمعه من أدرك عصر نزوله ومن لم يدرك ، ولأهل القول الأول أن يقولوا : من بلغه بعثة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ودعوته جاز له أن يقول : سمعنا مناديا وإن كان فيه ضرب من التجوز ، وأيضا المراد بالنداء الدعاء ، ونسبته إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أشهر وأظهر فقد قال تعالى : الطبري ادع إلى سبيل ربك ، أدعو إلى الله ، وداعيا إلى الله وهي إليه عليه الصلاة والسلام حقيقة وإلى القرآن على حد قوله :
تناديك أجداث وهن صموت وسكانها تحت التراب سكوت
والتنوين في المنادى للتفخيم ، وإيثاره على الداعي للإشارة إلى كمال اعتنائه بشأن الدعوة وتبليغها إلى القريب والبعيد لما فيه من الإيذان برفع الصوت ، وقد كان شأنه الرفيع صلى الله تعالى عليه وسلم في الخطب ذلك الرفع حقيقة ، ففي الخبر كان صلى الله تعالى عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول : صبحكم ومساكم .
ولما كان النداء مخصوصا بما يؤدي له ومنتهيا إليه تعدى باللام وإلى تارة ، وتارة فاللام في للإيمان على ظاهرها ولا حاجة إلى جعلها بمعنى إلى أو الباء ، ولا إلى جعلها بمعنى العلة - كما ذهب إليه البعض - وجملة (ينادي) في موضع المفعول الثاني لسمع على ما ذهب إليه وكثير من النحاة من تعدي سمع هذه إلى مفعولين ولا حذف في الكلام ، وذهب الجمهور إلى أنها لا تتعدى إلا إلى واحد واختاره الأخفش قال [ ص: 164 ] في أماليه : وقد يتوهم أن السماع متعد إلى مفعولين من جهة المعنى والاستعمال ، أما المعنى فلتوقفه على مسموع ، وأما الاستعمال فلقولهم : سمعت زيدا يقول ذلك وسمعته قائلا ، وقوله تعالى : ابن الحاجب هل يسمعونكم إذ تدعون ولا وجه له لأنه يكفي في تعلقه المسموع دون المسموع منه ، وإنما المسموع منه كالمشموم منه ، فكما أن الشم لا يتعدى إلا إلى واحد فكذلك السماع فهو مما حذف فيه المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه للعلم به ، ويذكر بعده حال تبينه ويقدر في يسمعونكم إذ تدعون يسمعون أصواتكم انتهى.
جعل المسموع صفة بعد النكرة وحالا بعد المعرفة وهو الظاهر ، وادعى بعض المحققين أن الأوفق بالمعنى فيما جعله حالا أو وصفا أن يجعل بدلا بتأويل الفعل بالمصدر على ما يراه بعض النحاة لكنه قليل في الاستعمال فلذا أوثرت الوصفية أو الحالية . والزمخشري
وزعم بعضهم أن السماع إذا وقع على غير الصوت فلا بد أن يذكر بعده فعل مضارع يدل على الصوت ولا يجوز غيره - وهو غير صحيح لوقوع الظرف واسم الفاعل كما سمعته ، وفي تعليق السماع بالذات مبالغة في تحقيقه ، والإيذان بوقوعه بلا واسطة عند صدور المسموع عن المتكلم ، وفي إطلاق المنادي أولا حيث قال سبحانه : مناديا ولم يذكر ما دعي له ، ثم قوله عز شأنه بعد : ينادي للإيمان ما لا يخفى من التعظيم لشأن المنادي والمنادى له ، ولو قيل من أول الأمر (مناديا للإيمان) لم يكن بهذه المثابة ، وحذف المفعول الصريح لينادي إيذانا بالعموم أي ينادي كل واحد أن آمنوا بربكم أي أن آمنوا به على أن أن تفسيرية ، أو بأن آمنوا على أنها مصدرية ، وعلى الأول فآمنوا تفسير لينادي لأن نداءه عين قوله : آمنوا والتقدير ينادي للإيمان أي يقول : آمنوا وليس تفسيرا للإيمان كما توهم ، وعلى الثاني يكون بأن آمنوا متعلقا بـ (ينادي) لأنه المنادى به وليس بدلا من الإيمان كما زعمه البعض ، ومن المحققين من اقتصر على احتمال المصدرية لما أن كثيرا من النحاة يأبى التفسيرية لما فيها من التكلف ، ومن اختارها قال : إن المصدرية تستدعي التأويل بالمصدر وهو مفوت لمعنى الطلب المقصود من الكلام .
وأجيب بأنه يقدر الطلب في التأويل إذا كانت داخلة على الأمر ، وكذا يقدر ما يناسب الماضي والمستقبل إذا كانت داخلة عليهما ، ولا ينبغي أن يجعل الحاصل من الكل بمجرد معنى المصدر لئلا يفوت المقصود من الأمر وأخويه ، وفي التعرض لعنوان الربوبية إشارة إلى بعض الأدلة عليه سبحانه وتعالى ، ورمز إلى نعمته جل وعلا على المخاطبين ليذكروها فيسارعوا إلى امتثال الأمر ، وفي إطلاق الإيمان ثم تقييده تفخيم لشأنه ( فآمنا ) عطف على ( سمعنا ) ، والعطف بالفاء مؤذن بتعجيل القبول وتسبب الإيمان عن السماع من غير مهلة ، والمعنى فآمنا بربنا لما دعينا إلى ذلك قال أبو منصور : فيه دليل على بطلان الاستثناء في الإيمان ولا يخفى بعده ربنا تكرير كما قيل للتضرع وإظهار لكمال الخضوع وعرض للاعتراف بربوبيته تعالى مع الإيمان به .
فاغفر لنا مرتب على الإيمان به تعالى والإقرار بربوبيته كما تدل عليه الفاء أي فاستر لنا ذنوبنا أي كبائرنا وكفر عنا سيئاتنا أي صغائرنا ، وقيل : المراد من الذنوب ما تقدم من المعاصي ، ومن السيئات ما تأخر منها ، وقيل : الأول ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصية ، والثاني ما أتى به من الجهل بذلك ، والأول هو التفسير المأثور عن . ابن عباس
وأيد بأنه المناسب للغة لأن الذنب مأخوذ من الذنب بمعنى الذيل فاستعمل فيما تستوخم عاقبته وهو الكبيرة لما يعقبها من الإثم العظيم ، ولذلك تسمى تبعة اعتبارا بما يتبعها من العقاب كما صرح به ، وأما السيئة فمن السوء وهو المستقبح ، ولذلك تقابل بالحسنة فتكون أخف ، وتأييده بأن الغفران مختص بفعل الله تعالى [ ص: 165 ] والتكفير قد يستعمل في فعل العبد كما يقال : كفر عن يمينه ، وهو يقتضي أن يكون الثاني أخف من الأول على تحمل ما فيه ، إنما يقتضي مجرد الأخفية ، وأما كون الأول الكبائر والثاني الصغائر بالمعنى المراد فلا يجوز يراد بالأول والثاني ما ذكر في القول الثالث ، فإن الأخفية وعدمها فيه مما لا سترة عليه كما لا يخفى ، ثم المفهوم من كثير من عبارات اللغويين عدم الفرق بين الغفران والتكفير ، بل صرح بعضهم بأن معناهما واحد . الراغب
وقيل : في التكفير معنى زائد وهو التغطية للأمن من الفضيحة وقيل : إنه كثيرا ما يعتبر فيه معنى الإذهاب والإزالة ولهذا يعدى بعن والغفران ليس كذلك ، وفي ذكر (لنا) و(عنا) في الآية مع أنه لو قيل : فاغفر ذنوبنا وكفر سيئاتنا لأفاد المقصود إيماء إلى وفور الرغبة في هذين الأمرين ، وادعى بعضهم أن الدعاء الأول متضمن للدعاء بتوفيق الله تعالى للتوبة لأنه السبب لمغفرة الكبائر ، وأن الدعاء الثاني متضمن لطلب التوفيق منه سبحانه للاجتناب عن الكبائر لأنه السبب لتفكير الصغائر ، وأنت تعلم أن المغفرة غير مشروطة بالتوبة عند الأشاعرة ، وأن بعضهم احتج بهذه الآية على ذلك حيث إنهم طلبوا المغفرة بدون ذكر التوبة بل بدون التوبة بدلالة فاء التعقيب كذا قيل وسيأتي تحقيق ما فيه ، فتدبر .
وتوفنا مع الأبرار أي مخصوصين بالانخراط في سلكهم والعد من زمرتهم ، ولا مجال لكون المعية زمانية إذ منهم من مات قبل ، ومن يموت بعد ، وفي طلبهم التوفي وإسنادهم له إلى الله تعالى إشعار بأنهم يحبون لقاء الله تعالى ، ومن أحب لقاء الله تعالى أحب الله تعالى لقاءه .
والأبرار جمع بر كأرباب جمع رب وقيل : جمع بار كأصحاب جمع صاحب ، وضعف بأن فاعلا لا يجمع على أفعال ، وأصحاب جمع صحب بالسكون ، أو صحب بالكسر مخفف صاحب بحذف الألف .
وبعض أهل العربية أثبته وجعله نادرا ، ونكتة قولهم مع (الأبرار) دون أبرارا التذلل ، وأن المراد لسنا بأبرار فأسلكنا معهم واجعلنا من أتباعهم ، وفي الكشف إن في ذلك هضما للنفس وحسن أدب مع إدماج مبالغة لأنه من باب هو من العلماء بدل عالم .