ربنا وآتنا أي بعد التوفي ما وعدتنا أي به أو إياه ، والمراد بذلك الثواب على رسلك إما متعلق بالوعد ، أو بمحذوف وقع صفة لمصدر مؤكد محذوف ، وعلى التقديرين في الكلام مضاف محذوف ، والتقدير على التقدير الأول ، وعدتنا على تصديق أو امتثال رسلك وهو كما يقال - وعد الله تعالى الجنة على الطاعة ، وعلى الثاني وعدتنا وعدا كائنا على ألسنة رسلك ، ويجوز أن يتعلق الجار على تقدير الألسنة بالوعد أيضا فتخف مؤنة الحذف ، وتعلقه بآتنا كما جوزه أبو البقاء خلاف الظاهر .
وبعض المحققين جوز التعلق بكون مقيد هو حال من (ما) أي منزلا أو محمولا على رسلك .
واعترضه بأن القاعدة أن متعلق الظرف إذا كان كونا مقيدا لا يجوز حذفه ، وإنما يحذف إذا كان كونا مطلقا ، وأيضا الظرف هنا حال وهو إذا وقع حالا أو خبرا أو صفة يتعلق بكون مطلق لا مقيد ، وأجيب بمنع انحصار التعلق في كون مطلق بل يجوز التعلق به أو بمقيد ، ويجوز حذفه إذا كان عليه دليل ، ولا يخفى متانة الجواب ، وأن إنكار أبو حيان أبي حيان ليس بشيء إلا أن تقدير كون مقيد فيما نحن فيه تعسف مستغنى عنه .
وزعم بعضهم جواز كون على بمعنى مع ، وأنه متعلق بآتنا ، ولا حذف لشيء أصلا ، والمراد آتنا مع رسلك وشاركهم معنا في أجرنا ، فإن الدال على الخير كفاعله ، وفائدة طلب تشريكهم معهم أداء حقهم وتكثير فضيلهم ببركة مشاركتهم ، ولا يخفى أن هذا مما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى الجليل عليه ، بل ولا كلام أحد من [ ص: 166 ] فصحاء العرب ، وتكرير النداء لما مر غير مرة ، وجمع الرسل مع أن المنادي هو واحد الآحاد صلى الله عليه وسلم وحده لما أن دعوته لا سيما على منبر التوحيد ، وما أجمع عليه الكل من الشرائع منطوية على دعوة الكل فتصديقه صلى الله عليه وآله وسلم تصديق لهم عليهم السلام ، وكذا الموعود على لسانه عليه الصلاة والسلام من الثواب موعود على لسانهم ، وإيثار الجمع على الأول لإظهار الرغبة في تيار فضل الله تعالى إذ من المعلوم أن الثواب على تصديق رسل أعظم من الثواب على تصديق رسول واحد ، وعلى الثاني لإظهار كمال الثقة بإنجاز الموعود بناء على كثرة الشهود ، وتأخير هذا الدعاء بناء على ما ذكرنا في تفسير الموصول ، ويكاد يكون مقطوعا به ظاهرا لأن الأمر أخروي .
وأما إذا فسر بالنصر على الأعداء كما قيل ، فتأخيره عما قبله إما لأنه من باب التحلية والآخر من باب التخلية ، والتحلية متأخرة عن التخلية ، وإما لأن الأول مما يترتب على تحققه النجاة في العقبى ، وعلى عدمه الهلاك فيها ، والثاني ليس كذلك كما لا يخفى فيكون دونه ، فلهذا أخر عنه ، وأيد كون المراد النصر لا الثواب الأخروي تعقيب ذلك بقوله تعالى : ولا تخزنا يوم القيامة لأن طلب الثواب يغني عن هذا الدعاء لأن الثواب متى حصل كان الخزي عنهم بمراحل ، وهذا بخلاف ما إذا كان المراد من الأول الدعاء بالنصر في الدنيا فإن عدم الإغناء عليه ظاهر بل في الجمع بين الدعاءين حينئذ لطافة إذ مآل الأول (لا تخزنا) في الدنيا بغلبة العدو علينا فكأنهم قالوا : لا تخزنا في الدنيا ولا تخزنا في الآخرة ، وغايروا في التعبير فعبروا في طلب كل من الأمرين بعبارة للاختلاف بين المطلوبين أنفسهما ، وأجيب بأن فائدة التعقيب على ذلك التقدير الإشارة إلى أنهم طلبوا ثوابا كاملا لم يتقدمه خزي ووقوع في بلاء ، وكأنهم لما طلبوا ما هو المتمنى الأعظم وغاية ما يرجوه الراجون في ذلك اليوم الأيوم وهو الثواب التفتوا إلى طلب ما يعظم به أمره ويرتفع به في ذلك الموقف قدره وهو ترك العذاب بالمرة ، وفي الجمع بين الأمرين على هذا من اللطف ما لا يخفى ، وأيضا يحتمل أن يقال : إنهم طلبوا الثواب أولا باعتبار أنه يندفع به العذاب الجسماني ثم طلبوا دفع العذاب الروحاني بناء على أن الخزي الإهانة والتخجيل ، فيكون في الكلام ترق من الأدنى إلى الأعلى كأنهم قالوا : ربنا ادفع عنا العذاب الجسماني وادفع عنا ما هو أشد منه وهو العذاب الروحاني ، وإن أنت أبيت هذا وذاك وادعيت التلازم بين الثواب وترك الخزي فلنا أن نقول : إن القوم لمزيد حرصهم وفرط رغبتهم في النجاة في ذلك اليوم الذي تظهر فيه الأهوال وتشيب فيه الأطفال لم يكتفوا بأحد الدعاءين وإن استلزم الآخر بل جمعوا بينهما ليكون ذلك من الإلحاح - والله تعالى يحب الملحين في الدعاء – فهو أقرب إلى الإجابة ، وقدموا الأول لأنه أوفق بما قبله صيغة ، ومن الناس من يؤول هذا الدعاء بأنه طلب العصمة عما يقتضي الإخزاء ، وجعل ختم الأدعية ليكون ختامها مسكا لأن المطلوب فيه أمر عظيم ، والظرف متعلق بما عنده معنى ولفظا ، ويجب ذلك قطعا إن كان الكلام مؤولا ، أو كان الموصول عبارة عن النصر ، ويترجح بل يكاد يجب أيضا إذا كان الموصول عبارة عن الثواب واحتمال أنه مما تنازع فيه (آتنا ولا تخزنا على ذلك التقدير هو كما ترى .
إنك لا تخلف الميعاد (194) تذييل لتحقيق ما نظموا في سلك الدعاء ، وقيل : متعلق بما قبل الأخير اللازم له ، وإليه يشير كلام الأجهوري ، و (الميعاد) مصدر ميمي بمعنى الوعد ، وقيده الكثير هنا بالإثابة والإجابة وهو الظاهر ، وأما تفسيره بالبعث بعد الموت - كما روي عن - فصحيح لأنه ميعاد الناس للجزاء ، وقد يرجع إلى الأول ، وترك العطف [ ص: 167 ] في هذه الأدعية المفتتحة بالنداء بعنوان الربوبية للإيذان باستقلال المطالب وعلو شأنها ، وقد أشرنا إلى سر تكرار النداء بذلك الاسم ، وفي بعض الآثار أن ابن عباس موسى عليه السلام قال مرة : يا رب ، فأجابه الله تعالى : لبيك يا موسى ، فعجب موسى عليه السلام من ذلك فقال : يا رب أهذا لي خاصة ؟ فقال : لا ولكن لكل من يدعوني بالربوبية ، وعن رضي الله تعالى عنه : من أحزنه أمر فقال : ربنا ربنا خمس مرات نجاه الله تعالى مما يخاف وأعطاه ما أراد ، وقرأ هذه الآية . جعفر الصادق
وأخرج عن ابن أبي حاتم قال : ما من عبد يقول يا رب ثلاث مرات إلا نظر الله تعالى إليه ، فذكر عطاء للحسن فقال : أما تقرأ القرآن ربنا إننا سمعنا مناديا إلخ .
فإن قلت : إن وعد الله تعالى واجب الوقوع لاستحالة الخلف في وعده سبحانه إجماعا فكيف طلب القوم ما هو واقع لا محالة ؟ قلت : أجيب بأن وعد الله تعالى لهم ليس بحسب ذواتهم بل بحسب أعمالهم ، فالمقصود من الدعاء التوفيق للأعمال التي يصيرون بها أهلا لحصول الموعود ، أو المقصود مجرد الاستكانة والتذلل لله تعالى بدليل قولهم : إنك لا تخلف الميعاد وبهذا يلتئم التذييل أتم التئام ، واختار هذا الجبائي وعلي بن عيسى ، أو الدعاء تعبدي لقوله سبحانه : ادعوني فلا يضر كونه متعلقا بواجب الوقوع ، وما يستحيل خلافه ، ومن ذلك رب احكم بالحق وقيل : إن الموعود به هو النصر لا غير ، والقوم قد علموا ذلك لكنهم لم يوقت لهم في الوعد ليعلموه فرغبوا إلى الله تعالى في تعجيل ذلك لما فيه من السرور بالظفر ، فالموعود غير مسؤول والمسؤول غير موعود ، فلا إشكال ، وإلى هذا ذهب وقال : إن الآية مختصة بمن هاجر من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم واستبطأوا النصر على أعدائهم بعد أن وعدوا به وقالوا : لا صبر لنا على أناتك وحلمك ، وقوي بما بعد من الآيات ، وكلام الطبري أبي القاسم البلخي يشير إلى هذا أيضا وفيه كلام يعلم مما قدمنا ، وقيل : ليس هناك دعاء حقيقة بل الكلام مخرج مخرج المسألة ، والمراد منه الخبر ، ولا يخفى أنه بمعزل عن التحقيق ، ويزيده وهنا على وهن.