وتسمى سورة الساهرة والطامة، وهي مكية بالاتفاق، وعدد آيها ست وأربعون في الكوفي وخمس وأربعون في غيره، وعن أنها نزلت عقب سورة عم، وأولها يشبه أن يكون قسما لتحقيق ما في آخر عم أو ما تضمنته كلها، وفي البحر لما ذكر سبحانه في آخر ما قبلها الإنذار بالعذاب يوم القيامة أقسم عز وجل في هذه على البعث ذلك اليوم فقال جل شأنه: ابن عباس
[ ص: 23 ] بسم الله الرحمن الرحيم والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا إقسام من الله تعالى بطوائف من ملائكة الموت عليهم السلام الذين ينزعون الأرواح من الأجساد على الإطلاق كما في رواية عن ابن عباس أو أرواح الكفرة على ما أخرجه ومجاهد، سعيد بن منصور عن وابن المنذر علي كرم الله تعالى وجهه، وجويبر في تفسيره عن الحبر عن وابن أبي حاتم ابن مسعود عن وعبد بن حميد وروي عن قتادة، سعيد بن جبير وينشطونها؛ أي: يخرجونها من الأجساد من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ويسبحون في إخراجها سبح الذي يخرج من البحر ما يخرج فيسبقون ويسرعون بأرواح الكفرة إلى النار وبأرواح المؤمنين إلى الجنة فيدبرون أمر عقابها وثوابها؛ بأن يهيئوها لإدراك ما أعد لها من الآلام واللذات، ومال بعضهم إلى تخصيص النزع بأرواح الكفار، والنشط والسبح بأرواح المؤمنين؛ لأن النزع جذب بشدة، وقد أردف بقوله تعالى: ومسروق غرقا وهو مصدر مؤكد بحذف الزوائد؛ أي: إغراقا في النزع من أقاصي الأجساد، وقيل: هو نوع، والنزع جنس؛ أي: في هذا المحل، وذلك أنسب بالكفار. وقال ابن مسعود: من جسده من تحت كل شعرة ومن تحت الأظافر وأصول القدمين ثم تغرقها في جسده ثم تنزعها حتى إذا كادت تخرج يردها في جسده وهكذا مرارا فهذا عملها في الكفار، والنشط الإخراج برفق وسهولة وهو أنسب بالمؤمنين وكذا السبح ظاهر في التحرك برفق ولطافة، قال بعض السلف: إن الملائكة يسلون أرواح المؤمنين سلا رقيقا ثم يتركونها حتى تستريح رويدا ثم يستخرجونها برفق ولطف كالذي يسبح في الماء فإنه يتحرك برفق لئلا يغرق فهم يرفقون في ذلك الاستخراج لئلا يصل إلى المؤمن ألم وشدة، وفي التاج إن النشط حل العقدة برفق، ويقال كما في البحر: أنشطت العقال ونشطته إذا مددت أنشوطته فانحلت، والأنشوطة عقدة يسهل انحلالها إذا جذبت كعقدة التكة، فإذا جعلت الناشطات من النشط بهذا المعنى كان أوفق للإشارة إلى الرفق والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي كما مر غير مرة للإشعار بأن كل واحد من الأوصاف المعدودة من معظمات الأمور حقيق بأن يكون على حياله مناطا لاستحقاق موصوفة للإجلال والإعظام بالإقسام به من غير انضمام الأوصاف الأخر إليه، ولو جعلت النازعات ملائكة العذاب والناشطات ملائكة الرحمة كان العطف للتغاير الذاتي على ما هو الأصل، والفاء في الأخيرين للدلالة على ترتبهما على ما قبلهما بغير مهلة، وانتصاب «نشطا، وسبحا، وسبقا» على المصدرية كانتصاب «غرقا» وأما انتصاب «أمرا» فعلى المفعولية للمدبرات لا على نزع الخافض؛ أي بأمر منه تعالى كما قيل، وزعم أنه الأولى وتنكيره للتهويل والتفخيم، وجوز أن يكون «غرقا» مصدرا مؤولا بالصفة المشبهة ونصبه على المفعولية أيضا للنازعات أو صفة للمفعول به لها؛ أي: نفوسا غرقة في الأجساد. تنزع الملائكة روح الكفار
وحمل بعضهم غرقها فيها بشدة تعلقها بها وغلبة صفاتها عليها، وكأن ذلك مبني على تجرد الأرواح كما ذهب إليه الفلاسفة وبعض أجلة المسلمين، هذا ولم نقف على نص في أن وظاهر تفسير «الناشطات» أنهم حالة النزع خارج الجسد كالواقف «والسابحات» دخولهم فيه لإخراجها على ما قيل، وأنت تعلم أن السبح ليس على حقيقته، ولا مانع من أن يراد به مجرد الاتصال ونحوه مما لا توقف له على الدخول، وجوز أن يكون المراد بالسابحات وما بعدها طوائف من الملائكة يسبحون في مضيهم فيسبقون فيه إلى ما أمروا به من الأمور الدنيوية والأخروية فيدبرون أمره من كيفيته وما لا بد منه فيه، ويعم ذلك ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، والعطف عليه لتغاير الموصوفات كالصفات، وأيا ما كان [ ص: 24 ] فجواب القسم محذوف يدل عليه ما بعد من أحوال القيامة ويلوح إليه الأقسام المذكورة، والتقدير: «والنازعات» إلخ لتبعثن وإليه ذهب الملائكة حال قبض الأرواح وإخراجها هل يدخلون في الأجساد أم لا، وجماعة، وقيل: إقسام بالنجوم السيارة التي تنزع أي تسير من نزع الفرس إذا جرى من المشرق إلى المغرب غرقا في النزع وجدا في السير بأن تقطع الفلك على ما يبدو للناس حتى تنحط في أقصى الغرب وتنشط من برج إلى برج أي تخرج من نشط الثور إذا خرج من مكان إلى مكان آخر، ومنه قول الفراء هميان بن قحافة:
أرى همومي تنشط المناشطا الشام بي طورا وطورا واسطا
وتسبح في الفلك فيسبق بعضها في السير لكونه أسرع حركة فتدبر أمرا نيط بها كاختلاف الفصول وتقدير الأزمنة وظهور مواقيت العبادات والمعاملات المؤجلة، ولما كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب سريعة قسرية وتابعة لحركة الفلك الأعظم ضرورة، وحركاتها من برج إلى برج بإرادتها من غير قسر لها وهي غير سريعة أطلق على الأولى النزع؛ لأنه جذب بشدة، وعلى الثانية النشط لأنه برفق وروي حمل «النازعات» على النجوم عن الحسن وقتادة والأخفش وابن كيسان وأبي عبيدة، وحمل الناشطات عليها عن والثلاثة الأول، وحمل «السابحات» عليها عن الأولين، وحملها ابن عباس أبو روق على الليل والنهار والشمس والقمر منها، والمدبرات عليها من معاذ، وإضافة التدبير إليها مجاز، وقيل: إقسام بالنفوس الفاضلة حالة المفارقة لا بد أنها بالموت فإنها تنزع عن الأبدان غرقا؛ أي نزعا شديدا من أغرق النازع في القوس إذا بلغ غاية المدى حتى ينتهي إلى النصل لعسر مفارقتها إياها حيث ألفنه وكان مطية لها لاكتساب الخير ومظنة لازدياده فتنشط شوقا إلى عالم الملكوت وتسبح به فتسبق به إلى حظائر القدس فتصير لشرفها وقوتها من المدبرات أي ملحقة بالملائكة أو تصلح هي لأن تكون مدبرة كما قال الإمام إنها بعد المفارقة قد تظهر لها آثار وأحوال في هذا العالم فقد يرى المرء شيخه بعد موته فيرشده لما يهمه، وقد نقل عن جالينوس أنه مرض مرضا عجز عن علاجه الحكماء فوصف له في منامه علاجه فأفاق وفعله فأفاق وقد ذكره ولذا قيل: وليس بحديث كما توهم. «إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا من أصحاب القبور» أي: أصحاب النفوس الفاضلة المتوفين، ولا شك في أنه يحصل لزائرهم مدد روحاني ببركتهم، وكثيرا ما تنحل عقد الأمور بأنامل التوسل إلى الله تعالى بحرمتهم، وحمله بعضهم على الأحياء منهم الممتثلين أمر موتوا وقبل أن تموتوا، وتفسير «النازعات» بالنفوس مروي عن الغزالي إلا أنه قال: هي جماعة النفوس تنزع بالموت إلى ربها «والناشطات» بها عن السدي أيضا إلا أنه قال: ابن عباس
هي النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج والسابقات بها عن إلا أنه قال: هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة عليهم السلام الذين يقبضونها وقد عاينت السرور شوقا إلى لقاء الله تعالى وقيل: إقسام بالنفوس حال سلوكها وتطهير ظاهرها وباطنها بالاجتهاد في العبادة والترقي في المعارف الإلهية فإنها تنزع عن الشهوات وتنشط إلى عالم القدس فتسبح في مراتب الارتقاء فتسبق إلى الكمالات حتى تصير من المكملات للنفوس الناقصة، وقيل: إقسام بأنفس الغزاة أو أيديهم تنزع القسي بإغراق السهام وتنشط بالسهم للرمي وتسبح في البر والبحر فتسبق إلى حرب العدو فتدبر أمرها، وإسناد السبح وما بعده إلى الأيدي عليه مجاز للملابسة، وحمل ( النازعات ) على الغزاة مروي عن ابن مسعود إلا أنه قال: هي النازعات بالقسي وغيرها، وقيل: بصفات خيلهم فإنها تنزع في أعنتها غرقا أي تمد أعنتها مدا قويا حتى تلصقها بالأعناق من غير ارتخائها فتصير كأنها انغمست فيها، وتخرج من دار الإسلام إلى دار الكفر وتسبح في جريها فتسبق إلى العدو فتدبر أمر الظفر، وإسناد التدبير إليها إسناد إلى السبب، وحمل «السابحات» على الخيل مروي عن عطاء أيضا وجماعة، ولا يخفى أن أكثر هذه الأقوال لا يليق بشأن جزالة التنزيل وليس له قوة مناسبة للمقام ومنها ما فيه قول بما عليه أهل الهيئة المتقدمون [ ص: 25 ] من الحركة الإرادية للكوكب وهي حركته الخاصة ونحوها مما ليس في كلام السلف ولم يتم عليه برهان؛ ولذا قال بخلافه المحدثون من الفلاسفة وفي حمل «المدبرات» على النجوم إيهام صحة ما يزعمه أهل الأحكام وجهلة المنجمين وهو باطل عقلا ونقلا كما أوضحنا ذلك فيما تقدم وكذا في حملها على النفوس الفاضلة المفارقة إيهام صحة ما يزعمه كثير من سخفة العقول من أن الأولياء يتصرفون بعد وفاتهم بنحو شفاء المريض وإنقاذ الغريق والنصر على الأعداء وغير ذلك مما يكون في عالم الكون والفساد على معنى أن الله تعالى فوض إليهم ذلك، ومنهم من خص ذلك بخمسة من الأولياء، والكل جهل وإن كان الثاني أشد جهلا، نعم لا ينبغي التوقف في أن الله تعالى قد يكرم من شاء من أوليائه بعد الموت كما يكرمه قبله بما شاء فيبرئ سبحانه المريض وينقذ الغريق وينصر على العدو وينزل الغيث وكيت وكيت كرامة له وربما يظهر عز وجل من يشبهه صورة فتفعل ما سئل الله تعالى بحرمته مما لا إثم فيه استجابة للسائل، وربما يقع السؤال على الوجه المحظور شرعا فيظهر سبحانه نحو ذلك مكرا بالسائل واستدراجا له، ونقل الإمام في هذا المقام عن عطاء أنه قال: إن الأرواح الشريفة إذا فارقت أبدانها ثم اتفق إنسان مشابه للإنسان الأول في الروح والبدن فإنه لا يبعد أن يحصل للنفس المفارقة تعلق بهذا البدن حتى تصير كالمعاونة للنفس المتعلقة بذلك البدن على أعمال الخير فتسمى تلك المعاونة إلهاما، ونظيره في جانب النفوس الشريرة وسوسة انتهى. الغزالي
ولم أر ما يشهد على صحته في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة، وقد ذكر الإمام نفسه في المباحث المشرقية استحالة تعلق أكثر من نفس ببدن واحد، وكذا استحالة تعلق نفس واحدة بأكثر من بدن، ولم يتعقب ما نقله هنا فكأنه فهم أن التعلق فيه غير التعلق المستحيل فلا تغفل، وقال في وجه حمل المذكورات على الملائكة أن الملائكة عليهم السلام لها صفات سلبية وصفات إضافية، أما الأولى فهي أنها مبرأة عن الشهوة والغضب والأخلاق الذميمة والموت والهرم والسقم والتركيب والأعضاء والأخلاط والأركان بل هي جواهر روحانية مبرأة عن هذه الأحوال؛ «فالنازعات غرقا إشارة إلى كونها منزوعة عن هذه الأحوال نزعا كليا من جميع الوجوه على أن الصيغة للنسبة والناشطات نشطا إشارة إلى أن خروجها عن ذلك ليس كخروج البشر على سبيل الكلفة والمشقة بل بمقتضى الماهية، فالكلمتان إشارتان إلى تعريف أحوالهم السلبية، وأما صفاتهم الإضافية فهي قسمان: الأول شرح قوتهم العاقلة وبيان حالهم في معرفة ملك الله تعالى وملكوته سبحانه والاطلاع على نور جلاله جل جلاله فوصفهم سبحانه في هذا المقام بوصفين: أحدهما: والسابحات سبحا فهم يسبحون من أول فطرتهم في بحار جلاله تعالى ثم لا منتهى لسبحهم؛ لأنه لا منتهى لعظمة الله تعالى وعلو صمديته ونور جلاله وكبريائه فهم أبدا في تلك السباحة، وثانيهما فالسابقات سبقا وهو إشارة إلى تفاوت مراتبهم في درجات المعرفة وفي مراتب التجلي، والثاني شرح قوتهم العاملة وبيان حالهم فيها فوصفهم سبحانه في هذا المقام بقوله تعالى: فالمدبرات أمرا ولما كان التدبير لا يتم إلا بعد العلم قدم شرح القوة العاقلة على شرح القوة العاملة» انتهى. وهو على ما في بعضه من المنع ليس بشديد المناسبة للمقام، ونقل غير واحد أقوالا غير ما ذكر في تفسير المذكورات فعن «النازعات» المنايا تنزع النفوس، وحكى مجاهد: أنها الوحش تنزع إلى الكلأ، وعن الأول تفسير «الناشطات» بالمنايا أيضا، وعن يحيى بن سلام تفسيرها بالبقر الوحشية وما يجري مجراها من الحيوان الذي ينشط من قطر إلى قطر، وعنه أيضا تفسير «السابحات» بالسفن، وعن عطاء تفسيرها بالمنايا تسبح في نفوس الحيوان، وعن بعضهم تفسيرها بالسحاب وعن آخر تفسيرها بدواب البحر، وعن بعض تفسير «السابقات» بالمنايا على معنى أنها تسبق الآمال، وعن غير واحد تفسير «المدبرات» مجاهد بجبريل يدبر الرياح والجنود والوحي وميكال [ ص: 26 ] يدبر القطر والنبات وعزرائيل يدبر قبض الأرواح وإسرافيل يدبر الأمر النازل عليهم؛ لأنه ينزل به ويدبر النفخ في الصور والأكثرون تفسيرها بالملائكة مطلقا، بل قال لا أحفظ خلافا في أنها الملائكة وليس في تفسير شيء مما ذكر خبر صحيح عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما أعلم وما ذكرته أولا هو المرجح عندي نظرا للمقام. والله تعالى أعلم. ابن عطية: