فبين الحصرين مخالفة، وأجيب بأن الصلي ليس مطلق دخول النار ولا مطلق مقاساة حرها، بل هو مقاساته على وجه الأشدية، فقد نقل ابن المنير عن أئمة اللغة أن الصلي أن يحفروا حفيرة فيجمعوا فيها جمرا كثيرا ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه بين أطباقه؛ فالمعنى: لا يعذب بين أطباقها ولا يقاسي حرها على وجه الأشدية إلا الأشقى وسيبعد عنها الأتقى فلا يدخلها فضلا عن مقاساة ذلك فيلزم من الأول أن غير الأشقى وهو المؤمن العاصي لا يعذب بين أطباقها ولا يقاسي حرها على وجه الأشدية، ولا يلزم منه أن لا يدخلها ولا يعذب بها أصلا فيجوز أن يدخلها ويعذب بها على وجهها عذابا دون ذلك العذاب. ويلزم من الثاني أن غير الأتقى لا يجنبها ولا يلزم منه أن غيره أعني التقي في الجملة وهو المؤمن العاصي يصلاها ويعذب بين أطباقها أشد العذاب، بل غايته أنه لا يجنبها فيجوز أن يدخلها ويعذب بها على وجهها عذابا ليس بالأشد فلا مخالفة بين الحصرين واعتبر بعضهم في الصلي الأشدية لما ذكر واللزوم هنا لمقابلته بقوله تعالى: وسيجنبها كذا قيل.
واستحسن جعل السين للتأكيد ليكون المعنى: يجنبها الأتقى ولا بد فيفيد على القول بالمفهوم أن غيره وهو المؤمن العاصي [ ص: 151 ] لا يجنبها ولا بد على معنى أنه يجوز أن يجنبها، ويجوز أن لا يجنبها بل يدخلها غير صال بها. وقرر الاستشكال بأنه قد علم أن كل شقي يصلاها، وكل تقي يجنبها لا يختص الصلي بأشقى الأشقياء ولا التجنب والنجاة بأتقى الأتقياء، وظاهر الجملتين ذلك. وأجاب بما حاصله أن الحصر حيث كانت الآية واردة للموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ادعائي مبالغة لا حقيقي كان غير هذا الأشقى غير صال وغير هذا الأتقى، غير مجنب بالكلية، واستحسنه في الكشف فقال: هو معنى حسن، وأنت تعلم أن مبنى ما قاله على الاعتزال وتخليد العصاة في النار. وقال الزمخشري القاضي: إن قوله تعالى: لا يصلاها لا يدل على أنه تعالى لا يدخل النار إلا الكفار كما يقول المرجئة؛ وذلك لأنه تعالى نكر النار فيها، فالمراد أن نارا من النيران لا يصلاها إلا من هذه حاله والنار دركات على ما علم من الآيات، فمن أين عرف أن هذه النار لا يصلاها قوم آخرون؟
وتعقبه بأنه ما يصنع عليه بقوله تعالى: الزمخشري وسيجنبها الأتقى فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة لا الأتقى منهم خاصة، وأجيب بأنه لعل هذا القائل لا يقول بمفهوم الصفة ونحوها فلا تفيد الآية المذكورة عنده الحصر، ويكون تمييز هذا الأتقى عنده بمجموع التجنب وما سيذكر بعد، ولعل كل من لا يقول بالمفهوم لا يشكل عليه الأمر إلا أمر الحصر في: لا يصلاها... إلخ. فإنه كالنص في بادئ النظر فيها يدعيه المرجئة لحملهم الصلي فيه على مطلق الدخول. وأيدوه بما أخرج الإمام أحمد وابن ماجه عن وابن مردويه قال: أبي هريرة قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا يدخل النار إلا من شقي». قيل: ومن الشقي؟ قال: «الذي لا يعمل لله تعالى طاعة ولا يترك لله تعالى معصية».
وهذا الخبر ونحوه من الأخبار مما يستندون إليه في تحقيق دعواهم وأهل السنة يؤولون ما صح من ذلك للنصوص الدالة على تعذيب بعض ممن ارتكب الكبيرة على ما بين في موضعه. وقيل في الجواب: إن المراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي، وشاع أفعل في مثل ذلك ومنه قول طرفة:
تمنى رجال أن أموت فإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فإنه أراد بواحد واعترض بأنه لا يحسم مادة الإشكال؛ إذ ذلك الشقي في الآية ليس إلا الكافر فيلزم الحصر أن لا يدخل النار أو لا يعذب بها غيره من أنه خلاف المذهب الحق، وأيضا أن ذلك التقي فيها قد وصف بما وصف فعلى القول بالمفهوم يلزم أن لا يجنبها التقي الغير الموصوف بذلك كالتقي الذي لا مال له وكغيره والمكلفين من الأطفال والمجانين مع أن الحق أنهم يجتنبونها وقيل غير ذلك. ولعلك بعد الاطلاع عليه وتدقيق النظر في جميع ما قيل واستحضار ما عليه الجماعة في أهل الجمع تستحسن إن قلت بالمفهوم ما استحسنه صاحب الكشف مما مر عن وإن لم تكن ممن يقول بتخليد أهل الكبائر من المؤمنين فتأمل. الزمخشري
وجنب يتعدى إلى مفعولين فالضمير «ها» هنا المفعول الثاني، والأتقى المفعول الأول، وهو النائب عن الفاعل. ويقال: جنب فلان خيرا وجنب شرا، وإذا أطلق فقيل: جنب فلان. فمعناه على ما قال أبعد عن الخير، وأصل جنبته كما قيل: جعلته على جانب منه، وكثيرا ما يراد منه التبعيد، ومنه ما هنا ولذا قلنا أي: سيبعد عنها الأتقى. الراغب: