والمسد ما مسد أي: فتل من الحبال فتلا شديدا من ليف المقل، على ما قال أبو الفتح ومن أي ليف على ما قيل، وقيل: من لحاء شجر باليمن يسمى المسد، وروي ذلك عن وقد يكون كما في البحر من جلود الإبل أو أوبارها ومنه قوله: ابن زيد،
ومسد أمر من أيانق ليست بأنياب ولا حقائق
أي: في عنقها حبل مما مسد من الحبال، والمراد تصويرها بصور الحطابة التي تحمل الحزمة وتربطها في جيدها تخسيسا لحالها وتحقيرا لها لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها إذ كانا في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة. ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحمالة الحطب فقال:
ماذا أردت إلى شتمي ومنقصتي أم ما تعير من حمالة الحطب
غراء شادخة في المجد غرتها كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب
وقد أغضبها ذلك، فيروى أنها رضي الله تعالى عنه وهو مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في المسجد وبيدها فهر، فقالت: بلغني أن صاحبك هجاني ولأفعلن وأفعلن وإن كان شاعرا فأنا مثله أقول: أبا بكر
مذمما أبينا ودينه قلينا
وأمره عصينا
وأعمى الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؛ فروي أن قال لها: هل ترين معي أحدا؟ فقالت: أبا بكر
أتهزأ بي؟ لا أرى غيرك. فسكت ومضت وهي تقول: أبو بكر قريش تعلم أني بنت سيدها. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لقد حجبني عنها ملائكة، فما رأتني وكفى الله تعالى شرها». لما سمعت السورة أتت
وقيل: إن ذلك ترشيح للمجاز بناء على اعتباره في حمالة الحطب. وفي الكشاف: يحتمل أن يكون المعنى: تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم أو من الضريع وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه، وعليه فالحبل مستعار للسلسلة، وروي هذا عن عروة بن الزبير ومجاهد وسفيان. وأمر الإعراب على ما في الكشف أنه إن نصب: حمالة يكون حالا هو والجملة؛ أعني: في جيدها حبل عن المعطوف على الضمير: سيصلى أي ستصلى امرأته على هذه الحالة أو يكون حمالة نصبا على الذم، والجملة وحدها حالا أو «امرأته في جيدها حبل» جملة وقعت حالا عن الضمير، ويحتمل عطف الجملة على الجملة على ضعف.
وعلى الرفع يحتمل أن تكون الجملة حالا وأن يكون: ( امرأته ) عطفا على الفاعل، «وحمالة الحطب في جيدها» جملة لا محل لها من الإعراب وقعت بيانا لكيفية صليها، أي: هي حمالة الحطب. انتهى فتأمل ولا تغفل.
وعلى جميع الأوجه والاحتمالات إنما لم يقل سبحانه: «في عنقها» والمعروف أن يذكر العنق مع الغل ونحوه مما فيه امتهان كما قال تعالى: في أعناقهم أغلالا والجيد مع الحلي كقوله:
أو أحسن من جيد المليحة حليها.
ولو قال: «عنقها» كان غثا من الكلام. قال في الروض الآنف: لأنه تهكم نحو: فبشرهم بعذاب أليم أي: لا جيد لها فيحلى، ولو كان لكانت حليته هذه. ولتحقيرها قيل: ( امرأته ) ولم يقل زوجه انتهى.
وهو بديع جدا إلا أنه يعكر على آخره قوله تعالى: وامرأته قائمة ولعله استعان هاهنا على ما قال بالمقام. وعن أنه كان في جيدها قلادة من ودع، وفي معناه قول قتادة من خرز. وقال الحسن: كانت قلادة فاخرة من جوهر وأنها قالت: واللات والعزى لأنفقنها على عداوة ابن المسيب: محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولعل المراد على هذا أنها تكون في نار جهنم ذات قلادة من حديد ممسود بدل قلادتها التي كانت تقول فيها: [ ص: 265 ] لأنفقنها إلخ.
وعلى ما قبله تهجين أمر قلادتها لتأكيد ذمها بالبخل الدال عليه قوله تعالى: حمالة الحطب على ما نقلناه سابقا عن ويحتمل غير ذلك، ووجه التعبير بالجيد على ما ذكر مما لا يخفى. وزعم بعضهم أن الكلام يحتمل أن يكون دعاء عليها بالخنق بالحبل وهو من الذهن مناط الثريا. نعم ذكر أنها ماتت يوم ماتت مخنوقة بحبل حملت به حزمة حطب، لكن هذا لا يستدعي حمل ما ذكر على الدعاء. هذا واستشكل أمر تكليف قتادة، أبي لهب بالإيمان مع قوله تعالى: سيصلى إلخ بأنه بعد أن أخبر الله تعالى عنه بأنه سيصلى النار لا بد أن يصلاها ولا يصلاها إلا الكافر فالإخبار بذلك يتضمن الإخبار بأنه لا يؤمن أصلا، فمتى كان مكلفا بالإيمان بما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومنه ما ذكر لزم أن يكون مكلفا بأن يؤمن بأن لا يؤمن أصلا وهو جمع بين النقيضين خارج عن حد الإمكان. وأجيب عنه بأن ما كلفه هو الإيمان بجميع ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام إجمالا لا الإيمان بتفاصيل ما نطق به القرآن الكريم حتى يلزم أن يكلف الإيمان بعدم إيمانه المستمر ويقال نحو هذا في الجواب عن تكليف الكافرين المذكورين في قوله تعالى: قل يا أيها الكافرون إلخ بالإيمان بناء على تعينهم مع قوله تعالى: ولا أنتم عابدون ما أعبد إلخ بناء على دلالته على استمرار عدم عبادتهم ما يعبد عليه الصلاة والسلام.
وأجاب بعضهم بأن قوله تعالى: سيصلى إلخ ليس نصا في أنه لا يؤمن أصلا؛ فإن صلي النار غير مختص بالكفار فيجوز أن يفهم أبو لهب منه أن دخوله النار لفسقه ومعاصيه لا لكفره، ولا يجري هذا في الجواب عن تكليف أولئك الكافرين بناء على فهمهم السورة إرادة الاستمرار. وأجاب بعض آخر بأن من جاء فيه مثل ذلك وعلم به مكلف بأن يؤمن بما عداه مما جاء به صلى الله تعالى عليه وسلم.
وأجاب الكعبي وأبو الحسين البصري وكذا القاضي عبد الجبار بغير ما ذكر مما رده الإمام، وقيل في خصوص هذه الآية: إن المعنى: سيصلى نارا ذات لهب، ويخلد فيها إن مات ولم يؤمن فليس ذلك مما هو نص في أنه لا يؤمن، وما لهذه الأجوبة وما عليها يطلب من مطولات كتب الأصول والكلام، واستدل بقوله تعالى: ( وامرأته ) على صحة أنكحة الكفار. والله تعالى أعلم.