أفلا يتدبرون القرآن لعله جواب سؤال نشأ من جعل الله تعالى شهيدا، كأنه قيل: شهادة الله تعالى لا شبهة فيها، ولكن من أين يعلم أن ما ذكرته شهادة الله تعالى محكية عنه، فأجاب سبحانه بقوله: (أفلا يتدبرون) وأصل التدبر التأمل في أدبار الأمور وعواقبها، ثم استعمل في كل تأمل سواء كان نظرا في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه، والفاء للعطف على مقدر، أي: أيشكون في أن ما ذكر شهادة الله تعالى فلا يتدبرون القرآن الذي جاء به هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - المشهود له، ليعلموا كونه من عند الله، فيكون حجة، وأي حجة على المقصود!
وقيل: المعنى أيعرضون عن القرآن فلا يتأملون فيه ليعلموا كونه من عند الله تعالى بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحي الصادق، والنص الناطق بنفاقهم، المحكي على ما هو عليه.
ولو كان أي: القرآن من عند غير الله كما يزعمون لوجدوا فيه اختلافا كثيرا بأن يكون بعض إخباراته الغيبية كالإخبار عما يسره المنافقون غير مطابق للواقع؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، فحيث اطرد الصدق فيه ولم يقع ذلك قط علم أنه بإعلامه تعالى ومن عنده، وإلى هذا يشير كلام الأصم وفي رواية عن والزجاج، أن المراد: لوجدوا فيه تناقضا كثيرا، وذلك لأن كلام البشر إذا طال لم يخل - بحكم العادة - من التناقض، وما يظن من الاختلاف، كما في كثير من الآيات، ومنه ما سبق آنفا ليس من الاختلاف عند المتدبرين، وقيل - وهو مما لا بأس به خلافا لزاعمه – المراد: لكان الكثير منه مختلفا متناقضا، قد تفاوت نظمه وبلاغته، فكان بعضه بالغا حد الإعجاز، وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته، وبعضه إخبارا بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه، وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعاني، وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم، فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائقة لقوى البلغاء، وتناصر صحة معان وصدق أخبار علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره، عالم بما لا يعلمه سواه، انتهى. ابن عباس
[ ص: 93 ] وهو مبني على كون وجه الإعجاز عند علماء العربية كون القرآن في مرتبة الأعلى من البلاغة، وكون المقصود من الآية إثبات القرآن كله وبعضه من الله تعالى، وحينئذ لا يمكن وصف الاختلاف بالكثرة؛ لأنه لا يكون الاختلاف حينئذ إلا بأن يكون البعض منه معجزا والبعض غير معجز، وهو اختلاف واحد، فلذا جعل (وجدوا) متعديا إلى مفعولين أولهما (كثيرا) وثانيهما (اختلافا) بمعنى مختلفا، وإليه يشير قوله: لكان الكثير منه مختلفا، وإنما جعل اللازم على تقدير كونه من عند غير الله تعالى كون الكثير مختلفا، مع أنه يلزم أن يكون الكل مختلفا اقتصارا على الأقل، كما في قوله تعالى: يصبكم بعض الذي يعدكم وهو من الكلام المنصف، وبهذا يندفع ما أورد من أن الكثرة صفة الاختلاف، والاختلاف صفة للكل في النظم، وقد جعل صفة الكثرة، والكثرة صفة الكثير؛ لأنا لا نسلم أن الكثرة صفة الاختلاف، بل هما مفعولا (وجدوا) وكذا ما أورد من أنه يفهم من قوله: لكان بعضه بالغا حد الإعجاز ثبوت قدرة غيره تعالى على الكلام المعجز، وهو باطل؛ لأنا لا نسلم ذلك، فإن المقصود أن القرآن كلا وبعضا من الله تعالى، أي: البعض الذي وقع به التحدي - وهو مقدار أقصر سورة منه - ولو كان بعض من أبعاضه من غيره تعالى لوجدوا فيه الاختلاف المذكور، وهو أن لا يكون بعضه بالغا حد الإعجاز، قاله بعض المحققين.
وقال بعضهم: لا محيص عن الإيراد الأخير سوى أن يحمل الكلام على الفرض والتقدير، أي: لو كان فيه مرتبة الإعجاز ففي البعض خاصة، على أن يكون ذلك القدر مأخوذا من كلام الله تعالى، كما في الاقتباس ونحوه، إلا أنه لا يخفى بعده، وإلى تفسير الاختلاف بالتفاوت بلاغة وعدم بلاغة ذهب إلى هذا. أبو علي الجبائي
ونقل عن أن في الآية فوائد: وجوب النظر في الحجج والدلالات، وبطلان التقليد، وبطلان قول من يقول: إن المعارف الدينية ضرورية، والدلالة على صحة القياس، والدلالة على أن أفعال العباد ليست بخلق الله تعالى لوجود التناقض فيها، انتهى. الزمخشري
ولا يخفى أن دلالتها على وجوب النظر في الجملة وبطلان التقليد للكل، وقول من يقول: إن المعارف الدينية كلها ضرورية إما على صحة القياس على المصطلح الأصولي فلا، وإما تقرير الأخير - على ما في الكشف - فلأن اللازم كل مختلف من عند غير الله تعالى على قولهم: أن لو عكس لولا، ولو كان أفعال العباد من خلقه لكانت من عنده بالضرورة، وكذبت القضية أو بعض المختلف من عند غير الله تعالى على ما حققه الشيخ والمشهور عند أهل الاستدلال، فيكون بعض أفعال العباد غير مخلوقة له تعالى، ويكفي ذلك في الاستدلال إذ لا قائل بالفرق بين بعض وبعض إذا كان اختياريا، وأجاب فيه بأن اللازم كل مختلف هو قرآن من عند غير الله تعالى على الأول، وحينئذ لا يتم الاستدلال. ابن الحاجب،
وذكر أن معنى (ولو كان من عند غير الله) تعالى عند الجماعة: ولو كان قائما بغيره تعالى، ولا مدخل للخلق في هذه الملازمة، وأنت تعلم أنه غير ظاهر الإرادة هنا، وكذا استدل بالآية على فساد قول من زعم أن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول -صلى الله عليه وسلم - أو الإمام المعصوم كما قال بعض الشيعة.