لكن الله يشهد بتخفيف النون ورفع الجلالة.
وقرأ السليمي بتشديد النون ونصب الجلالة، وهو استدراك عن مفهوم ما قبله، كأنهم لما سألوه صلى الله تعالى عليه وسلم إنزال كتاب من السماء، وتعنتوا، ورد عليهم بقوله تعالى: إنا أوحينا إليك إلخ، قيل: إنهم لا يشهدون، (لكن الله يشهد).
وحاصل ذلك إن لم تلزمهم الحجة ويشهدوا لك فالله تعالى يشهد، وقيل: إنه سبحانه لما شبه الإيحاء إليه صلى الله تعالى عليه وسلم بالإيحاء إلى الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أوهم ذلك التشبيه مزية الإيحاء إليهم، فاستدرك عنه بأن للإيحاء إليك مزية شهادة الله تعالى.
بما أنزل إليك أي: بحقية الذي أنزله إليك وهو القرآن، فالجار والمجرور متعلق بـ(يشهد) والباء صلة، والمشهود به هو الحقية، ويجوز أن يكون المشهود به هو النبوة، وتعلق (بما أنزل) تعلق الآلية، أي: يشهد بنبوتك بسبب ما أنزل إليك لدلالته بإعجازه على صدقك ونبوتك، ولعل مآل المعنى ومؤداه واحد، فإن شهادته سبحانه بحقية ما أنزله من القرآن بإظهار المعجز المقصود منه إثبات نبوته، صلى الله تعالى عليه وسلم.
وأخرج في الدلائل، وغيره، عن البيهقي - رضي الله تعالى عنهما - قال: ابن عباس دخل جماعة من اليهود على رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقال عليه الصلاة والسلام لهم: «إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله، فقالوا: ما نعلم ذلك، فنزلت (لكن الله يشهد).
وفي رواية عنه: «أنه لما نزل (إنا أوحينا إليك) قالوا: ما نشهد لك، فنزل (لكن الله يشهد بما أنزل إليك). ابن جرير
وقرئ (أنزل) على البناء للمفعول أنزله بعلمه ذكر فيه أربعة أوجه:
الأول: أن يكون المعنى (أنزله) بعلمه الخاص به الذي لا يعلمه غيره سبحانه، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، واختاره جماعة من المفسرين.
والثاني: أن يكون المعنى (أنزله) وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك؛ لقيامك فيه بالحق، ودعائك الناس إليه، واختاره الطبرسي.
والثالث: أن يكون المعنى (أنزله) بما علم من مصالح العباد، مشتملا عليه.
والرابع: أن يكون المعنى (أنزله) وهو عالم به رقيب عليه، حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة.
والعلم على الوجه الأول قيل بمعنى المعلوم، والمراد به التأليف والنظم المخصوص، وليس من جعل العلم [ ص: 20 ] مجازا عن ذلك، ولو جعل عليه العلم بمعناه المصدري، والباء للملابسة، ويكون تأليفه بيانا لتلبسه لا للعلم نفسه صح، لكن فيه تجوز من جهة أن التأليف ليس نفس التلبس بل أثره، ويحتمل على هذا أن تكون الباء للآلية كما يقال: فعله بعلمه إذا كان متقنا وعلى ما ينبغي، فيكون وصفا للقرآن بكمال الحسن والبلاغة.
وأما على الوجه الثاني والثالث فالعلم بمعناه، أو في الثالث بمعنى المعلوم، والظرف حال من الفاعل أو المفعول، ومتعلق العلم مختلف، وهو أنك أهل لإنزاله أو مصالح العباد.
وظاهر كلام البعض أنه على الثاني حال من الفاعل، وعلى الثالث من المفعول، وجوز أن يكون مفعولا مطلقا مطلقا أي: إنزالا متلبسا بعلمه، وموقع الجملة على الأول موقع الجملة المفسرة؛ لأنه بيان للشهادة على ما نص عليه وعلى الوجهين موقع التقرير والبيان للصلة، وقيل: إنها في الأوجه الثلاثة كالتفسير لـ(أنزل إليك) لأنها بيان لإنزاله على وجه مخصوص. الزمخشري،
وأما على الوجه الرابع فقد ضمن العلم بمعنى الرقيب والحافظ، والظرف حال من الفاعل، ويكون (أنزله) تكريرا ليعلق به ما علق، أو كما قيل، ولم يعتبر بعضهم هذا الوجه؛ لأنه لا مساس له بهذا المقام، وقيل: إن فيه تعظيما لأمر القرآن بحفظه من شياطين الجن المشعر بحفظه أيضا من شياطين الإنس، فتكون الجملة حينئذ كالتفسير للشهادة أيضا، وقرئ (نزله) .
والملائكة يشهدون أيضا بما شهد الله تعالى به؛ لأنهم تبع له سبحانه في الشهادة، والجملة عطف على ما قبلها، وقيل: حال من مفعول (أنزله) أي: أنزله والملائكة يشهدون بصدقه وحقيته، وجعل بعضهم شهادة الملائكة على صدقه - صلى الله تعالى عليه وسلم - في دعواه بإتيانهم لإعانته - عليه الصلاة والسلام - في القتال ظاهرين، كما كان في غزوة بدر ، وأيا ما كان (فيشهدون) من الشهادة، وذكر أنه على الوجه الرابع من الشهود للحفظ.
وكفى بالله شهيدا على ما شهد به لك، حيث نصب الدليل، وأوضح السبيل، وأزال الشبه، وبالغ في ذلك على وجه لا يحتاج معه إلى شهادة غيره عز وجل.