( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ) أي: لا يحب أن يهتك العبد ستره إذا صدرت منه هفوة، أو اتفقت منه كبوة ( إلا من ظلم ) أي: إلا جهر من ظلمته نفسه برسوخ الملكات الخبيثة فيه؛ فإنه مأذون له بإظهار ما فيه من تلك الملكات، وعرضها على أطباء القلوب، ليصفوا له دواءها.
وقيل: لا يحب الله تعالى إفشاء سر الربوبية، وإظهار مواهب الألوهية، أو كشف القناع من مكنونات الغيب ومصونات غيب الغيب ( إلا من ظلم ) بغلبات الأحوال، وتعاقب كؤوس الجلال والجمال، فاضطر إلى المقال، فقال باللسان الباقي لا باللسان الفاني: أنا الحق وسبحاني ما أعظم شأني، وفي تسمية تلك الغلبة ظلما خفاء لا يخفى.
وفي ظاهر الآية بشارة عظيمة للمذنبين، حيث بين سبحانه أنه لا يرضى بهتك الستر إلا من المظلوم، فكيف يرضى سبحانه من نفسه أن يهتك ستر العاصين وليسوا بظالميه جل جلاله؟! وإنما ظلموا أنفسهم كما نطق بذلك الكتاب: ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ) هؤلاء قوم احتجبوا بالجمع عن التفصيل، فأنكروا الرسل لتوهمهم وحدة منافية للكثرة، وجمعا مباينا للتفصيل، ومن هنا عطلوا الشرائع وأباحوا المحرمات، وتركوا الصلوات، ( ويريدون أن يتخذوا بين ذلك ) الإيمان بالكل جمعا وتفصيلا والكفر بالكل ( سبيلا ) أي: طريقا ( أولئك هم الكافرون ) المحجوبون ( حقا ) بذواتهم وصفاتهم؛ لأن معرفتهم وهم وغلط، وتوحيدهم زندقة وضلال، ولقتل واحد منهم أنفع من قتل [ ص: 21 ] ألف حربي على ما أشار إليه حجة الإسلام الغزالي، قدس سره.
( والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم ) وهم المؤمنون جمعا وتفصيلا، لا يحجبهم جمع عن تفصيل، ولا تفصيل عن جمع، كالسادة الصادقين من أهل الوحدة ( أولئك سوف يؤتيهم أجورهم ) من الجنات الثلاث ( وكان الله غفورا ) يستر ذواتهم وصفاتهم ( رحيما ) يرحمهم بالوجود الموهوب الحقاني، والبقاء السرمدي.
( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ) أي: علما يقينا بالمكاشفة من سماء الروح ( فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ) أي: طلبوا المشاهدة، ولا شك أنها أكبر وأعلى من المكاشفة ( فأخذتهم الصاعقة ) أي استولت عليهم نار الأنانية وأهلكت استعدادهم بظلمهم، وهو طلبهم المشاهدة مع بقاء ذواتهم ( ثم اتخذوا العجل ) أي: عجل الشهوات، الذي صاغه سامري النفس الأمارة ( من بعد ما جاءتهم البينات ) الرادعة لهم عن ذلك ( وآتينا موسى سلطانا مبينا ) وهو سطوع نور التجلي من وجهه حتى احتاج إلى أن يستر وجهه بالبرقع رحمة بخفافيش أمته ( ورفعنا فوقهم الطور ) أي: جعلناه مستوليا عليهم ( بميثاقهم ) أي: بسبب أن يعطوا الميثاق، وأشير بالطور إلى موسى - عليه السلام – أو إلى العقل، ورفعه فوقهم تأييده بالأنوار الإلهية ( وقلنا لهم ادخلوا الباب ) أي: باب السير والسلوك الموصل إلى حضيرة القدس، وملك الملوك ( سجدا ) خضعا متذللين.
وقوله تعالى: ( بل رفعه الله إليه ) أشير به - على ما ذكره بعض القوم والعهدة عليه - إلى اتصال روحه - عليه السلام - بالعالم العلوي عند مفارقته للعالم السفلي، وذلك الرفع عندهم إلى السماء الرابعة؛ لأن مصدر فيضان روحه - عليه السلام - روحانية فلك الشمس الذي هو بمثابة قلب العالم، ولما لم يصل إلى الكمال الحقيقي الذي هو درجة المحبة لم يكن له بد من النزول مرة أخرى في صورة جسدانية، يتبع الملة المحمدية لنيل تلك الدرجة العلية، وحينئذ يعرفه كل أحد فيؤمن به أهل الكتاب، أي: أهل العلم العارفين بالمبدأ والمعاد، كلهم عن آخرهم ( قبل موته ) عليه السلام بالفناء بالله - عز وجل - فإذا آمنوا به يكون يوم القيامة، أي: يوم بروزهم عن الحجب الجسمانية، وانتباهم عن نوم الغفلة ( شهيدا ) وذلك بأن يتجلى الحق عليهم في صورته.
( فبظلم من الذين هادوا ) وهو عبادتهم عجل الشهوات، واتخاذه إلها، وامتناعهم عن دخول باب حضيرة القدس، واعتدائهم في السبت بمخالفة الشرع الذي هو المظهر الأعظم، والاحتجاب عن كشف توحيد الأفعال، ونقضهم ميثاق الله تعالى، واحتجابهم عن توحيد الصفات، الذي هو كفر بآيات الله تعالى إلى غير ذلك من المساوي:
مساو لو قسمن على الغواني لما أمهرن إلا بالطلاق
( حرمنا عليهم طيبات ) عظيمة جليلة، وهي ما في الجنات الثلاث ( أحلت لهم ) بحسب استعدادهم لولا هذه الموانع ( وبصدهم عن سبيل الله ) أي الطريق الموصلة إليه سبحانه ( كثيرا ) أي: خلقا كثيرا، وهي القوى الروحانية، ( وأخذهم الربا ) وهو فضول العلم الرسمي الجدلي، الذي هو كشجرة الخلاف لا ثمرة له، كاللذات البدنية والحظوظ النفسانية ( وقد نهوا عنه ) لما أنه الحجاب العظيم ( وأكلهم أموال الناس بالباطل ) أي استعمال علوم القوى الروحانية في تحصيل الخسائس الدنيوية، أو أخذ ما في أيدي العباد برذيلة الحرص والطمع.
( لكن الراسخون في العلم ) المستقيمون في السماع الخاص من الله سبحانه، من غير معارضة النفوس، واضطراب الأسرار، ( والمؤمنون ) بالإيمان العياني حال كونهم ( يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) من الأحكام الشرعية، والأسرار الإلهية.
[ ص: 22 ] ( والمقيمين الصلاة ) على أكمل وجه ( والمؤتون الزكاة ) ببذل قوامهم في أصناف الطاعة ( والمؤمنون بالله واليوم الآخر ) أي: بالمبدأ والمعاد، والمراد من المتعاطفات طائفة واحدة كما قدمنا ( أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ) لا يقادر قدره فيما أعد لهم من الجنات.
( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح ) الآية، التشبيه على حد التشبيه في قوله تعالى: ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) على قول: ( رسلا مبشرين ) بتجليات اللطف ( ومنذرين ) بتجليات القهر ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) أي: لئلا يكون لهم ظهور وسلطنة بعدما محي ذلك بإمداد الرسل ( وكان الله عزيزا ) فيمحو صفاتهم، ويفني ذواتهم ( حكيما ) فيفيض عليهم من صفاته، ويبقيهم في ذاته حسبما تقتضيه الحكمة ( لكن الله يشهد بما أنزل إليك ) لتجليه فيه سبحانه ( أنزله بعلمه ) أي: متلبسا بعلمه المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ومن هنا علم صلى الله تعالى عليه وسلم ما كان وما هو كائن ( والملائكة ) هم أصحاب النفوس القدسية ( يشهدون ) أيضا لعدم احتجابهم ( وكفى بالله شهيدا ) لأنه الجامع ولا موجود غيره، والله تعالى الموفق للصواب.