وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا هم كما روي عن الذين نهي صلى الله عليه وسلم عن طردهم، والمراد بالآيات الآيات القرآنية أو الحجج مطلقا، وجوز في الباء أن تكون صلة الإيمان وأن تكون سببية أي يؤمنون بكل ما يجب الإيمان به بسبب نزول الآيات أو النظر فيها والاستدلال بها. وفي وصف أولئك الكرام بالإيمان بعد وصفهم بما وصفهم سبحانه به تنبيه على حيازتهم لفضيلتي العلم والعمل، وتأخير هذا الوصف مع أنه كالمنشإ للوصف السابق لما أن مدار الوعد بالرحمة هو الإيمان كما أن مناط النهي عن الطرد فيما سبق هو المداومة على العبادة، وتقدم في رواية عكرمة عن ابن المنذر ما يشير إلى أنها نزلت في عكرمة رضي [ ص: 164 ] الله تعالى عنهن وروي ذلك أيضا عن عمر رضي الله تعالى عنهما. وأمر صيغة الجمع على هذا ظاهر ابن عباس
وأخرج عبد بن حميد ومسدد في مسنده وآخرون عن وابن جرير ماهان قال : " أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا أصبنا ذنوبا عظاما فما رد عليه الصلاة والسلام عليهم شيئا فانصرفوا فأنزل الله تعالى الآية فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم " وروي عن مثل ذلك، وقيل : لم تنزل في قوم بأعيانهم بل هي محمولة على إطلاقها واختاره الإمام. والمشهور الأول وسياق الآية يرجح ما روي عن أنس ماهان
فقل سلام عليكم أمر منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يبدأهم بالسلام في محل لا ابتداء به فيه إكراما لهم بخصوصهم كما روي عن واختاره عكرمة، وقيل : أمره سبحانه أن يبلغهم تحيته عز شأنه، وروي ذلك عن الجبائي، وعن الحسن، رضي الله تعالى عنهما: إن المعنى أقبل عذرهم واعترافهم، وبشرهم بالسلامة مما اعتذروا منه. وعليه لا يكون السلام بمعنى التحية. وهو أيضا مبني على سبب النزول عنده رضي الله تعالى عنه، واختار بعضهم أنه بهذا المعنى أيضا على تقدير أن يراد بالموصول ما روي عن ابن عباس فيكون الكلام أمرا له عليه الصلاة والسلام أن يبشرهم بالسلام من كل مكروه بعد إنذار مقابليهم عكرمة
، وقوله تعالى كتب ربكم على نفسه الرحمة أي أوجبها على ذاته المقدسة تفضلا وإحسانا بالذات لا بتوسط شيء أصلا، وفيه احتمال آخر تقدم تبشير لهم بسعة رحمة الله تعالى. ولم يعطف على جملة السلام مع أنه محكي بالقول أيضا قيل لأنها دعائية إنشائية، وقيل : إشارة إلى استقلال كل من مضموني الجملتين وهما السلامة من المكاره ونيل المطالب بالبشارة. وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم إظهار للطف بهم وإشعار بعلة الحكم. وتمام الكلام في الآية قد مر عن قريب.، وقوله تعالى : أنه من عمل منكم سوءا بفتح الهمزة كما قرأ بذلك نافع وابن عامر وعاصم بدل من (الرحمة) كما قال ويعقوب وغيره. وقيل : إنه مفعول (كتب) و (الرحمة) مفعول له، وقيل : أنه على تقدير اللام، وجوز أبو علي الفارسي أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي عليه سبحانه أنه إلخ ودل على ذلك ما قبله. وقرأ الباقون (إنه) بالكسر على الاستئناف النحوي البياني كأنه قيل : وما هذه الرحمة؟ والضمير للشأن. و (من) موصولة أو شرطية وموضعها مبتدأ و (منكم) في موضع الحال من ضمير الفاعل. وقوله سبحانه : (بجهالة) حال أيضا على الأظهر أي من عمل ذنبا وهو جاهل أي فاعل فعل الجهلة لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل الجهل والسفه لا من أهل الحكمة والتدبير أو جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة أبو البقاء
وعن كل من عمل معصية فهو جاهل الحسن ثم تاب عن ذلك من بعده أي العمل أو السوء وأصلح أي في توبته بأن أتى بشروطها من التدارك والعزم على عدم العود أبدا فأنه غفور رحيم
45
- أي فشأنه سبحانه وأمره مبالغ في المغفرة والرحمة له. فإن وما بعدها خبر مبتدإ محذوف والجملة خبر (من) أو جواب الشرط، والخبر حينئذ على الخلاف، وقدر بعضهم فله أنه إلخ أو فعليه أنه إلخ، وحينئذ يجوز الرفع على الابتداء والرفع على الفاعلية، وقيل : إن المنسبك في موضع نصب بفعل محذوف أي فليعلم أنه إلخ، وقيل : إن هذا تكرير لما تقدم لبعد العهد، وقيل : بدل منه، وقال : وكلاهما ضعيف لوجهين [ ص: 165 ] الأول أن البدل لا يصحبه حرف معنى إلا أن يجعل الفاء زائدة وهو ضعيف، والثاني أن ذلك يؤدي إلى أن لا يبقى لـ (من) خبر ولا جواب على تقدير شرطيتها، والتزام الحذف بعيد، وفتح الهمزة هنا قراءة من فتح هناك سوى نافع فإنه كباقي القراء قرأ بالكسر أبو البقاء
وأجاز كسر الأولى وفتح الثانية، وهي قراءة الأعرج الزجاج والزهري وأبي عمرو الداني، ولم يطلع -على ما قيل- أبو شامة عليه الرحمة على ذلك فقال : إنه محتمل إعرابي وإن لم يقرأ به، وليس كما قال. ومن الناس من قال : إن هذه الآية تقوي مذهب المعتزلة حيث ذكر سبحانه في بيان سعة رحمته أن عمل السوء إذ قارن الجهل والتوبة والإصلاح فإنه يغفر، ولذا قيل : إنها نزلت في رضي الله تعالى عنه حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أجبتهم لما قالوا لعل الله تعالى يأتي بهم ولم يكن يعلم المضرة ثم أنه تاب وأصلح حتى أنه بكى، وقال معتذرا : ما أردت إلا خيرا. وأورد عليه أنه من المقرر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فنزولها في حق عمر رضي الله تعالى عنه لا يدفع الإشكال عمر
وتعقب بأن مراد المجيب أن اللفظ ليس عاما وخطاب (منكم) لمن كان في تلك المشاورة والعامل لذلك منهم عمر رضي الله تعالى عنه فلا إشكال. وأنت تعلم أن بناء الجواب على هذه الرواية ليس من المتانة بمكان إذ للخصم أن يقول : لا نسلم تلك الرواية. فلعل الأولى في الجواب أن ما ذكر في الآية إنما هو المغفرة الواجبة حسب وجوب الرحمة في صدر الآية. ولا يلزم من تقييد ذلك بما تقدم تقييد مطلق المغفرة به. فحينئذ يمكن أن يقال : إنه تعالى قد يغفر لمن لم يتب مثلا إلا أنه سبحانه لم يكتب ذلك على نفسه جل شأنه فافهمه فإنه دقيق