الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
قوله عز وجل: الذين يأكلون الربا يعني يأخذون الربا فعبر عن الأخذ بالأكل لأن الأخذ إنما يراد للأكل ، هو الزيادة من قولهم: ربا السويق يربو إذا زاد ، وهو الزيادة على مقدار الدين لمكان الأجل. [ ص: 348 ] والربا:
لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يعني من قبورهم يوم القيامة ، وفيه قولان: أحدهما: كالسكران من الخمر يقطع ظهرا لبطن ، ونسب إلى الشيطان لأنه مطيع له في سكره. والثاني: قاله ، ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد لا يقومون يوم القيامة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ، يعني الذي يخنقه الشيطان في الدنيا من المس ، يعني الجنون ، فيكون ذلك في القيامة علامة لأكل الربا في الدنيا. واختلفوا في مس الجنون ، هل هو بفعل الشيطان؟ فقال بعضهم: هذا من فعل الله بما يحدثه من غلبة السوداء فيصرعه ، ينسب إلى الشيطان مجازا تشبيها بما يفعله من إغوائه الذي يصرعه. وقال آخرون: بل هو من فعل الشيطان بتمكين الله له من ذلك في بعض الناس دون بعض ، لأنه ظاهر القرآن وليس في العقل ما يمنعه. والحسن: ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا قيل: إنه يعني ثقيفا لأنهم كانوا أكثر العرب ربا ، فلما نهوا عنه قالوا: كيف ننهى عن الربا وهو مثل البيع فحكى الله تعالى ذلك عنهم ، ثم أبطل ما ذكروه من التشبيه بالبيع فقال تعالى: وأحل الله البيع وحرم الربا وللشافعي في قوله: وأحل الله البيع وحرم الربا ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها من العام الذي يجري على عمومه في إباحة كل بيع إلا ما خصهما دليل من تحريم بعض البيع وإحلال بعض الربا ، فعلى هذا اختلف في قوله ، هل هو من العموم الذي أريد به العموم ، أو من العموم الذي أريد به الخصوص على قولين: أحدهما: أنه عموم أريد به العموم وإن دخله دليل التخصيص. والثاني: أنه عموم أريد به الخصوص. [ ص: 349 ] وتحريم كل ربا
وفي الفرق بينهما وجهان: أحدهما: أن العموم الذي أريد به العموم: أن يكون الباقي من العموم من بعد التخصيص أكثر من المخصوص ، والعموم الذي أريد به الخصوص أن يكون الباقي منه بعد التخصيص أقل من المخصوص. والفرق الثاني: أن البيان فيما أريد به الخصوص متقدم على اللفظ ، وأن ما أريد به العموم متأخر عن اللفظ ومقترن به ، [هذا] أحد أقاويله: والقول الثاني: أنه المجمل الذي لا يمكن [أن] يستعمل في إحلال بيع أو تحريمه إلا أن يقترن به بيان من سنة الرسول ، وإن دل على إباحة البيوع في الجملة دون التفصيل. وهذا فرق ما بين العموم والمجمل ، أن العموم يدل على في الجملة ولا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان. فعلى هذا القول أنها مجملة اختلف في إجمالها ، هل هو لتعارض فيها أو لمعارضة غيرها لها على وجهين: أحدهما: أنه لما تعارض ما في الآية من إحلال البيع وتحريم الربا وهو بيع صارت بهذا التعارض مجملة وكان إجمالها منها. والثاني: أن إجمالها بغيرها لأن السنة منعت من بيوع وأجازت بيوعا فصارت بالسنة مجملة. وإذا صح إجمالها فقد اختلف فيه: هل هو إجمال في المعنى دون اللفظ ، لأن لفظ البيع معلوم في اللغة وإنما الشرع أجمل المعنى والحكم حين أحل بيعا وحرم بيعا. والوجه الثاني: أن الإجمال في لفظها ومعناها ، لأنه لما عدل بالبيع عن إطلاقه على ما استقر عليه في الشرع فاللفظ والمعنى محتملان معا ، فهذا شرح القول الثاني. والقول الثالث: أنها داخلة في العموم والمجمل ، فيكون عموما دخله التخصيص ، ومجملا لحقه التفسير ، لاحتمال عمومها في اللفظ وإجمالها في [ ص: 350 ] إباحة البيوع
المعنى ، فيكون اللفظ عموما دخله التخصيص ، والمعنى مجملا لحقه التفسير. والوجه الثاني: أن عمومها في أول الآية من قوله: وأحل الله البيع وحرم الربا ، وإجمالها في آخرها من قوله: وحرم الربا ، فيكون أولها عاما دخله التخصيص ، وآخرها مجملا لحقه التفسير. والوجه الثالث: أن اللفظ كان مجملا ، فلما بينه الرسول صار عاما ، فيكون داخلا في المجمل قبل البيان ، في العموم بعد البيان. ثم قال تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى في الموعظة وجهان: أحدهما: التحريم. والثاني: الوعيد. فله ما سلف قاله : يعني ما أكل من الربا لا يلزمه رده. السدي وأمره إلى الله يحتمل وجهين: أحدهما: في المحاسبة والجزاء. والثاني: في العفو والعقوبة. وقيل فيه وجه ثالث: في العصمة والتوفيق. وقيل فيه وجه رابع: فأمره إلى الله والمستقل في تثبيته على التحريم أو انتقاله إلى الاستباحة.