قوله عز وجل: ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه أما همها به ففيه قولان: أحدهما: أنه كان هم شهوة.
الثاني: أنها استلقت له وتهيأت لمواقعته. وأما همه بها ففيه ستة أقاويل:
[ ص: 24 ] أحدها: أنه هم بها أن يضربها حين راودته عن نفسه ولم يهم بمواقعتها قاله بعض المتأخرين.
الثاني: أن قوله ولقد همت به كلام تام قد انتهى ، ثم ابتدأ الخبر عن يوسف فقال وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ومعنى الكلام : لولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، قاله قطرب.
الثالث: أن همها كان شهوة ، وهمه كان عفة.
الرابع: أن همه بها لم يكن عزما وإرادة وإنما كان تمثيلا بين الفعل والترك ، ولا حرج في حديث النفس إذا لم يقترن به عزم ولا فعل ، وأصل الهم حديث النفس حتى يظهر فيصير فعلا ، ومنه قول : جميل
هممت بهم من بثينة لو بدا شفيت غليلات الهوى من فؤاديا
الخامس: أن همه كان حركة الطباع التي في قلوب الرجال من شهوة النساء وإن كان قاهرا له ، وهو معنى قول الحسن.
السادس: أنه هم بمواقعتها وعزم عليه. قال وحل الهميان ابن عباس:
[ ص: 25 ] يعني السراويل وجلس بين رجليها مجلس الرجل من المرأة ، وهو قول جمهور المفسرين. فإن قيل: فكيف يجوز أن يوصف يوسف بمثل هذا الفعل وهو نبي الله عز وجل؟ قيل: هي منه معصية ، وفي معاصي الأنبياء ثلاثة أوجه: أحدها: أن كل نبي ابتلاه الله بخطيئة إنما ابتلاه ليكون من الله تعالى على وجل إذا ذكرها فيجد في طاعته إشفاقا منها ولا يتكل على سعة عفوه ورحمته.
الثاني: أن الله تعالى ابتلاهم بذلك ليعرفهم موقع نعمته عليهم بصفحه عنهم وترك عقوبتهم في الآخرة على معصيتهم.
الثالث: أنه ابتلاهم بذلك ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء رحمة الله وترك الإياس في عفوه عنهم إذا تابوا. وفي قوله تعالى لولا أن رأى برهان ربه ستة أقاويل: أحدها: أن برهان ربه الذي رآه أن نودي بالنهي عن مواقعة الخطيئة ، قال نودي أي ابن ابن عباس: يعقوب تزني فيكون مثلك مثل طائر سقط ريشه فذهب يطير فلم يستطع.
الثاني: أنه رأى صورة يعقوب وهو يقول: يا يوسف أتهم بفعل السفهاء وأنت مكتوب في الأنبياء؟ فخرجت شهوته من أنامله ، قاله قتادة ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير.
[ ص: 26 ] قال فولد لكل واحد من أولاد مجاهد: يعقوب اثنا عشر ذكرا إلا يوسف فلم يولد له إلا غلامان ونقص بتلك الشهوة ولده.
الثالث: أن البرهان الذي رآه ما أوعد الله تعالى على الزنا ، قال رأى كتابا على الحائط: محمد بن كعب القرظي: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [الإسراء: 32] .
الرابع: أن البرهان الذي رآه الملك إظفير سيده ، قاله ابن إسحاق.
الخامس: أن البرهان الذي رآه هو ما آتاه الله تعالى من آداب آبائه في العفاف والصيانة وتجنب الفساد والخيانة ، قاله ابن بحر.
السادس: أن البرهان الذي رآه أنه لما همت به وهم بها رأى سترا فقال لها: ما وراء هذه الستر؟ فقالت: صنمي الذي أعبده أستره استحياء منه. فقال: إذا استحيت مما لا يسمع ولا يبصر فأنا أحق أن أستحي من إلهي وأتوقاه ، قاله . الضحاك كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء فيها وجهان: أحدهما: أن السوء الشهوة ، والفحشاء المباشرة.
الثاني: أن السوء عقوبة الملك العزيز ، والفحشاء مواقعة الزنا. إنه من عبادنا المخلصين قرأ ابن كثير وأبو عمرو المخلصين بكسر اللام ، وتأويلها الذين أخلصوا طاعة الله تعالى. وقرأ الباقون بفتح اللام ، وتأويلها الذين أخلصهم الله برسالته ، وقد كان وابن عامر يوسف عليه السلام بهاتين الصفتين لأنه كان مخلصا في طاعة الله تعالى ، مستخلصا لرسالة الله.
[ ص: 27 ]