قوله تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا الآية .
أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح، عن وابن مردويه قال : أنزلت : ابن عباس قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية، في مشركي أهل مكة .
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر والطبراني وصححه، والحاكم وابن مردويه في "الدلائل" والبيهقي عن قال : كنا نقول : ما لمفتتن توبة، وما الله بقابل منه شيئا عرفوا ذلك وآمنوا به وصدقوا رسوله ثم رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم وكانوا يقولونه لأنفسهم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمر المدينة أنزل الله فيهم : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآيات . قال فكتبتها بيدي، ثم بعثت بها إلى ابن عمر : هشام بن العاص .
[ ص: 672 ] وأخرج ، الطبراني وابن مردويه في "شعب الإيمان" بسند لين، عن والبيهقي قال : ابن عباس وحشي بن حرب قاتل يدعوه إلى الإسلام فأرسل إليه : يا حمزة محمد، كيف تدعوني وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاما؛ يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا، وأنا صنعت ذلك، فهل تجد لي من رخصة؟ فأنزل الله : إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما [الفرقان : 70 ] فقال وحشي : هذا شرط شديد؛ إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فلعلي لا أقدر على هذا، فأنزل الله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء : 48، 116 ] فقال وحشي : هذا أرى بعد مشيئة، فلا أدري يغفر لي أم لا، فهل غير هذا؟ فأنزل الله : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية . قال وحشي : هذا نعم، فأسلم، فقال الناس : يا رسول الله : إنا أصبنا ما أصاب وحشي . قال : هي للمسلمين عامة . بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
وأخرج ، ابن أبي حاتم عن وابن مردويه قال : أبي سعيد والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق [الفرقان : 68 ] قال وحشي وأصحابه : فنحن قد ارتكبنا هذا كله، فأنزل الله : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية . لما أسلم وحشي أنزل الله :
[ ص: 673 ] وأخرج في كتاب "الصلاة" عن محمد بن نصر وحشي قال : ما كان، ألقى الله خوف حمزة محمد صلى الله عليه وسلم في قلبي فخرجت هاربا أكمن النهار وأسير الليل حتى صرت إلى أقاويل حمير فنزلت فيهم فأقمت حتى أتاني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوني إلى الإسلام قلت : وما الإسلام؟ قال : تؤمن بالله ورسوله وتترك الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله وشرب الخمر والزنا والفواحش كلها وتستحم من الجنابة وتصلي الخمس، وقال : إن الله قد أنزل هذه الآية : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله . ثم قدمت معهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصافحني وكناني بأبي حرب . لما كان في أمر
وأخرج في "الأدب المفرد" عن البخاري قال : أبي هريرة محمد، لم تقنط عبادي؟ فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أبشروا وسددوا وقاربوا . خرج النبي صلى الله عليه وسلم على رهط من أصحابه يضحكون ويتحدثون فقال : والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ثم انصرف وأبكى القوم، وأوحى الله إليه : يا
وأخرج ابن مردويه في "سننه" عن والبيهقي قال : اتعدت أنا عمر بن الخطاب وعياش بن أبي ربيعة أن نهاجر إلى [ ص: 674 ] وهشام بن العاص بن وائل المدينة، فخرجت أنا وعياش وفتن هشام فافتتن فقدم على عياش أخواه أبو جهل والحارث ابنا هشام، فقالا له : إن أمك قد نذرت أن لا يظلها ظل ولا يمس رأسها غسل حتى تراك، فقلت : والله إن يريداك إلا أن يفتناك عن دينك، وخرجا به، وفتنوه فافتتن قال : فنزلت فيهم : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله قال فكتبتها إلى عمر : هشام فقدم .
وأخرج ، ابن جرير عن وابن مردويه في قوله : ابن عباس يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله يقول : لا تيأسوا من رحمة الله؛ وذلك أن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الأوثان ودعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة، وقتلنا النفس التي حرم الله ونحن أهل الشرك؟ فأنزل الله : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ، وقال : وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له وإنما يعاتب الله أولي الألباب، وإنما الحلال والحرام لأهل الإيمان فإياهم عاتب، وإياهم أمر إذا أسرف أحدهم على نفسه ألا يقنط من رحمة الله، وأن يتوب، ولا ينظر بالتوبة من ذلك الإسراف والذنب الذي عمل، وقد ذكر الله في سورة "آل عمران" المؤمنين حين سألوا المغفرة فقالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا [ ص: 675 ] [آل عمران : 147 ] فينبغي أن يعلم أنهم كانوا يصيبون الإسراف، فأمرهم بالتوبة من إسرافهم .
وأخرج عن ابن جرير قال : نزلت هذه الآيات الثلاث عطاء بن يسار بالمدينة في وحشي وأصحابه : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم إلى قوله : وأنتم لا تشعرون .
وأخرج عن ابن جرير قال : إنما نزلت هذه الآيات في ابن عمر عياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذبوا، فافتتنوا فكنا نقول : لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوه؟ فنزلت هؤلاء الآيات وكان كاتبا، فكتبها بيده ثم بعث بها إلى عمر بن الخطاب عياش والوليد وإلى أولئك النفر، فأسلموا وهاجروا .
وأخرج ، أحمد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم وابن مردويه في "شعب الإيمان" عن والبيهقي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ثوبان : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم إلى آخر الآية، فقال رجل : يا رسول الله فمن أشرك؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : ألا ومن أشرك . ثلاث مرات . ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية :
[ ص: 676 ] وأخرج ، أحمد ، وعبد بن حميد وأبو داود وحسنه، والترمذي ، وابن المنذر في "المصاحف" وابن الأنباري ، والحاكم عن وابن مردويه أسماء بنت يزيد : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم) .
وأخرج ، ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد في "حسن الظن"، وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم والطبراني في "شعب الإيمان" عن والبيهقي أنه مر على قاص يذكر النار فقال : يا مذكر النار لا تقنط الناس، ثم قرأ : ابن مسعود، يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله .
وأخرج عن ابن جرير قال : قال ابن سيرين أي آية أوسع؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن علي : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه [النساء : 110 ] .
[ ص: 677 ] ونحوها، فقال ما في القرآن آية أوسع من : علي : يا عبادي الذين أسرفوا الآية .
وأخرج ، ابن جرير عن وابن المنذر في قوله : ابن عباس يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية، قال : قد دعا الله إلى مغفرته؛ من زعم أن المسيح هو الله، ومن زعم أن المسيح ابن الله، ومن زعم أن عزيرا ابن الله ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة، يقول الله لهؤلاء : أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم [المائدة : 74 ] ثم دعا إلى توبته من هو أعظم قولا من هؤلاء؛ من قال : أنا ربكم الأعلى [النازعات : 24 ] وقال : ما علمت لكم من إله غيري [القصص : 38 ] قال ومن آيس العباد من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه . ابن عباس :
وأخرج ، ابن المنذر عن وابن أبي حاتم قال : إن إبليس قال : يا رب إنك أخرجتني من الجنة من أجل عبيد بن عمير آدم، وإني لا أستطيعه إلا بسلطانك قال : فأنت مسلط عليه . قال : يا رب زدني، قال : لا يولد له ولد إلا ولد لك مثله قال : يا رب زدني . قال : صدورهم مساكن لكم وتجرون منهم مجاري الدم . قال : يا رب زدني، قال : أجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم، فقال آدم : يا رب، قد سلطته علي، [ ص: 678 ] وإني لا أمتنع منه إلا بك . فقال : لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه من قرناء السوء، قال : يا رب زدني، قال : الحسنة عشر أو أزيد، والسيئة واحدة أو أمحوها . قال : يا رب، زدني . قال : باب التوبة مفتوح ما كان الروح في الجسد، قال : يا رب زدني . قال : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم .
وأخرج أحمد وأبو يعلى، عن والضياء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أنس والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم الله لغفر لكم، والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء الله بقوم يخطئون، ثم يستغفرون الله فيغفر لهم .
وأخرج ابن أبي شيبة عن ومسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أبي أيوب الأنصاري : لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون فيغفر لهم .
وأخرج في "رواة الخطيب عن مالك" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ابن عمر أوحى الله إلى داود : يا داود إن العبد من عبيدي ليأتيني بالحسنة فأحكمه في جنتي . قال داود : وما تلك الحسنة؟ قال : كربة فرجها عن [ ص: 679 ] مؤمن قال داود : اللهم حقيق على من عرفك حق معرفتك ألا يقنط منك .
وأخرج ، عن الحكيم الترمذي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جابر بن عبد الله جبريل عليه السلام : يا محمد إن الله يخاطبني يوم القيامة فيقول : يا جبريل ما لي أرى فلان بن فلان في صفوف أهل النار؟ فأقول : يا رب، إنا لم نجد له حسنة يعود عليه خيرها اليوم . فيقول الله : إني سمعته في دار الدنيا يقول : يا حنان يا منان فأته فاسأله ماذا عنى بقوله : يا حنان يا منان . فآتيه فأسأله، فيقول : وهل من حنان ومنان غير الله فآخذ بيده من صفوف أهل النار فأدخله في صفوف أهل الجنة . قال لي
وأخرج ابن الضريس وأبو القاسم بن بشران في "أماليه" عن قال : إن الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يرخص لهم في معاصي الله ولم يؤمنهم عذاب الله، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره، إنه لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فهم فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها . علي بن أبي طالب
وأخرج عن ابن أبي شيبة قال : إن للمقنطين جسرا يطأ [ ص: 680 ] الناس يوم القيامة على أعناقهم . عطاء بن يسار
وأخرج ، عبد الرزاق عن وابن المنذر أنها قالت : ألم أحدث أنك تجلس ويجلس إليك؟ قال : بلى، قالت : فإياك وإهلاك الناس وتقنيطهم . عائشة
وأخرج ، عبد الرزاق عن وابن المنذر أن رجلا كان في الأمم الماضية يجتهد في العبادة ويشدد على نفسه، ويقنط الناس من رحمة الله، ثم مات، فقال : أي رب ما لي عندك؟ قال : النار، قال : فأين عبادتي واجتهادي؟ فقيل له : كنت تقنط الناس من رحمتي، وأنا أقنطك اليوم من رحمتي . زيد بن أسلم
وأخرج ، عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن وابن المنذر قال : ذكر لنا أن ناسا أصابوا في الشرك ذنوبا عظاما فكانوا يخافون ألا يغفر لهم فدعاهم الله بهذه الآية : قتادة يا عبادي الذين أسرفوا الآية .
وأخرج عن عبد بن حميد أبي مجلز لاحق بن حميد السدوسي قال : لما نزلت على نبي الله صلى الله عليه وسلم : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إلى آخر الآية، قام نبي الله صلى الله عليه وسلم فخطب [ ص: 681 ] الناس وتلا عليهم، فقام رجل فقال : يا رسول الله والشرك بالله؟ فسكت فأعاد ذلك ما شاء الله فأنزل الله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء الآية [النساء : 48، 116 ] .
وأخرج عن عبد بن حميد : عكرمة يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم إلى قوله : وأنيبوا إلى ربكم قال قال عكرمة : فيها علقة، ابن عباس وأنيبوا إلى ربكم .