في نصرته إهلاكهم ، فكأنه قال : أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي ، أو انصرني بدل ما كذبوني ، كما تقول : هذا بذاك ، أي : بدل ذاك ومكانه . والمعنى : أبدلني من غم تكذيبهم ، سلوة النصرة عليهم ، أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب ، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم : إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم [الشعراء : 135 ] ، "بأعيننا " : بحفظنا وكلاءتنا ، كأن معه من الله حفاظا يكلؤونه بعيونهم ، لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه [ ص: 227 ] مفسد عمله ، ومنه قولهم : عليه من الله عين كالئة ، "ووحينا" أي : نأمرك كيف تصنع ونعلمك ، روي أنه أوحى إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر ، روي أنه قيل لنوح -عليه السلام - : إذا رأيت الماء يفور من التنور ، فاركب أنت ومن معك في السفينة ، فلما نبع الماء من التنور ، أخبرته امرأته فركب ، وقيل : كان تنور آدم -عليه السلام- وكان من حجارة ، فصار إلى نوح ، واختلف في مكانه ؛ فعن : في مسجد الشعبي الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة ، وكان نوح عمل السفينة وسط المسجد ، وقيل : بالشام بموضع يقال له : عين وردة ، وقيل : بالهند ، وعن -رضي الله عنه - : التنور وجه الأرض ، وعن ابن عباس : أشرف موضع في الأرض ، أي : أعلاه ، وعن قتادة -رضي الله عنه - : فار التنور : طلع الفجر ، وقيل : معناه أن فوران التنور كان عند تنوير الفجر ، وقيل : هو مثل ؛ كقولهم : حمي الوطيس ، والقول : هو الأول ، يقال : سلك فيه : دخله ، وسلك غيره ، وأسلكه ؛ قال [من البسيط ] : علي
حتى إذا أسلكوهم في قتائده
من كل زوجين : من كل أمتي زوجين ، وهما أمة الذكر وأمة الأنثى ، كالجمال والنوق ، والحصن والرماك ، "اثنين " : واحدين مزدوجين ، كالجمل والناقة ، والحصان والرمكة ، روي أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض ، وقرئ : "من كل " : بالتنوين ، أي : من كل أمة زوجين ، واثنين : تأكيد وزيادة بيان .
جيء بعلى مع سبق الضار ، كما جيء باللام مع سبق النافع ؛ قال الله تعالى : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى [الأنبياء : 101 ] ، ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين [الصافات : 171 ] ، ونحو قوله تعالى : لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت [البقرة : 286 ] وقول -رضي الله عنه - : ليتها كانت كفافا ، لا علي ولا لي . عمر
فإن قلت : لم نهاه عن الدعاء لهم بالنجاة ؟
[ ص: 228 ] قلت : لما تضمنته الآية من كونهم ظالمين ، وإيجاب الحكمة أن يغرقوا لا محالة ؛ لما عرف من المصلحة في إغراقهم ، والمفسدة في استبقائهم ، وبعد أن أملى لهم الدهر المتطاول فلم يزيدوا إلا ضلالا ، ولزمتهم الحجة البالغة لم يبق إلا أن يجعلوه عبرة للمعتبرين ، ولقد بالغ في ذلك حيث أتبع النهي عنه ، الأمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم ، كقوله : فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [الأنعام : 45 ] ، ثم أمره أن يدعوه بدعاء هو أهم وأنفع له ، وهو طلب أن ينزله في السفينة أو في الأرض عند خروجه منها ، منزلا يبارك له فيه ويعطيه الزيادة في خير الدارين ، وأن يشفع الدعاء بالثناء عليه المطابق لمسألته ؛ وهو قوله : وأنت خير المنزلين .
فإن قلت : هلا قيل : فقولوا ؛ لقوله : فإذا استويت أنت ومن معك ؛ لأنه في معنى : فإذا استويتم ؟
قلت : لأنه نبيهم وإمامهم ، فكان قوله قولهم ، مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة وإظهار كبرياء الربوبية ، وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبي ، وقرئ : "منزلا " : بمعنى : إنزالا ، أو موضع إنزال ؛ كقوله : ليدخلهم مدخلا يرضونه ، "إن " : هي المخففة من الثقيلة ، واللام : هي الفارقة بين النافية وبينها في المعنى ، وإن الشأن والقصة ، كنا لمبتلين أي : مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد ، أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويذكر ؛ كقوله تعالى : ولقد تركناها آية فهل من مدكر [القمر : 15 ] .