واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب
[ ص: 272 ] "أيوب" عطف بيان. و "إذ" بدل اشتمال منه. أني مسني بأني مسني: حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه، ولو لم يحك لقال بأنه مسه; لأنه غائب. وقرئ: (بنصب) بضم النون وفتحها مع سكون الصاد، وبفتحهما، وضمهما، فالنصب والنصب: كالرشد والرشد، والنصب: على أصل المصدر، والنصب: تثقيل نصب، والمعنى واحد، وهو التعب والمشقة. والعذاب: الألم، يريد مرضه وما كان يقاسي فيه من أنواع الوصب. وقيل: الضر في البدن، والعذاب في ذهاب الأهل والمال. فإن قلت: لم نسبه إلى الشيطان، ولا يجوز أن يسلطه الله على أنبيائه ليقضي من أتعابهم وتعذيبهم وطره، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب؟ قلت: لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سببا فيما مسه الله به من النصب والعذاب، نسبه إليه، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو. وقيل: أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء، ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل. وروي أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين، فارتد أحدهم، فسأل عنه فقيل: ألقى إليه الشيطان: إن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين، وذكر في سبب بلائه أن رجلا استغاثه على ظالم فلم يغثه. وقيل: كانت مواشيه في ناحية ملك كافر، فداهنه ولم يغزه. وقيل: أعجب بكثرة ماله. اركض برجلك حكاية ما أجيب به أيوب، أي: اضرب برجلك الأرض. وعن : هي أرض الجابية فضربها، فنبعت عين، فقيل: قتادة هذا مغتسل بارد وشراب أي: هذا ماء تغتسل به وتشرب منه; فيبرأ باطنك وظاهرك، وتنقلب ما بك قلبة. وقيل: نبعت له عينان، فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى، فذهب الداء من ظاهره وباطنه بإذن الله، وقيل: ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها، ثم باليسرى فنبعت باردة فشرب منها، رحمة منا وذكرى مفعول لهما، والمعنى: أن الهبة كانت للرحمة له ولتذكير [ ص: 273 ] أولي الألباب; لأنهم إذا سمعوا بما أنعمنا به عليه لصبره، رغبهم في وعاقبة الصابرين وما يفعل الله بهم. "وخذ" معطوف على اركض. والضغث: الحزمة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك. وعن الصبر على البلاء : قبضة من الشجر، كان حلف في مرضه ليضربن امرأته مائة إذا برئ، فحلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها، وهذه الرخصة باقية. ابن عباس ويجب أن يصيب [ ص: 274 ] المضروب كل واحد من المائة، إما أطرافها قائمة، وإما أعراضها مبسوطة مع وجود صورة الضرب، وكان السبب في يمينه أنها أبطأت عليه ذاهبة في حاجة فحرج صدره، وقيل: باعت ذؤابتيها برغيفين وكانتا متعلق أيوب إذا قام. وقيل: قال لها الشيطان: اسجدي لي سجدة فأرد عليكم مالكم وأولادكم، فهمت بذلك فأدركتها العصمة، فذكرت ذلك له، فحلف. وقيل: أوهمها الشيطان أن وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أتى بمخدج، وقد خبث بأمة، فقال: "خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة" أيوب إذا شرب الخمر برئ، فعرضت له بذلك. وقيل: سألته أن يقرب للشيطان بعناق، وجدناه صابرا علمناه صابرا. فإن قلت: كيف وجده صابرا وقد شكا إليه ما به واسترحمه؟ قلت: الشكوى إلى الله عز وعلا لا تسمى جزعا، ولقد قال يعقوب عليه السلام: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله [يوسف: 86]، وكذلك شكوى العليل إلى الطبيب، وذلك أن أصبر الناس على البلاء لا يخلو من تمني العافية وطلبها، فإذا صح أن يسمى صابرا مع تمني العافية وطلب الشفاء، فليسم صابرا مع اللجإ إلى الله تعالى، والدعاء بكشف ما به، ومع التعالج ومشاورة الأطباء، على أن أيوب عليه السلام كان يطلب الشفاء خيفة على قومه من الفتنة، حيث كان الشيطان يوسوس إليهم كما كان يوسوس إليه أنه لو كان نبيا لما ابتلي بمثل ما ابتلي به، وإرادة القوة على الطاعة، فقد بلغ أمره إلى أن لم يبق منه إلا القلب واللسان. ويروى أنه قال في مناجاته: إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصري، ولم يهبني ما ملكت يميني، ولم آكل إلا ومعي يتيم، ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعي جائع أو عريان; فكشف الله عنه.