فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار كمن هو خالد في النار ؟ قلت: هو كلام في صورة الإثبات ومعنى النفى والإنكار، لانطوائه تحت حكم كلام مصدر بحرف الإنكار، ودخوله في حيزه، وانخراطه في سلكه، وهو قوله تعالى: أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله فكأنه قيل: أمثل الجنة كمن هو خالد في النار، أي كمثل جزاء من هو خالد في النار. فإن قلت: فلم عرى في حرف الإنكار؟ وما فائدة التعرية؟ قلت: تعريته من حرف الإنكار فيها زيادة تصوير لمكابرة من يسوي بين المتمسك بالبينة والتابع لهواه، وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجري فيها تلك الأنهار، وبين النار التي يسقى أهلها الحميم. ونظيره قول القائل [من المنسرح]:
[ ص: 522 ]
أفرح أن أرزأ الكرام وأن أورث ذودا شصائصا نبلا
هو كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود، مع تعريه عن حرف الإنكار لانطوائه تحت حكم قول من قال: أتفرح بموت أخيك وبوراثة إبله، والذي طرح لأجله حرف الإنكار إرادة أن يصور قبح ما أزن به فكأنه قال له: نعم مثلي يفرح بمرزأة الكرام وبأن يستبدل منهم ذودا يقل طائلة وهو من التسليم الذي تحته كل إنكار، ومثل الجنة: صفة الجنة العجيبة الشأن، وهو مبتدأ، وخبره: كمن هو خالد . وقوله: فيها أنهار، داخل في حكم الصلة كالتكرير لها. ألا ترى إلى صحة قولك: التي فيها أنهار. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف هي فيها أنهار، وكأن قائلا قال: وما مثلها؟ فقيل: فيها أنهار، وأن يكون في موضع الحال، أي: مستقرة فيها أنهار، وفى قراءة : (أمثال الجنة) أي: ما صفاتها كصفات النار. وقرئ: (أسن) يقال: أسن الماء وأجن: إذا تغير طعمه وريحه. وأنشد علي رضي الله عنه [من البسيط]: ليزيد بن معاوية
لقد سقتني رضابا غير ذي أسن كالمسك فت على ماء العناقيد
من لبن لم يتغير طعمه كما تتغير ألبان الدنيا، فلا يعود قارصا ولا حاذرا. ولا ما يكره من الطعوم "لذة" تأنيث لذ، وهو اللذيذ، أو وصف بمصدر. وقرئ بالحركات الثلاث، فالجر على صفة الخمر، والرفع على صفة الأنهار، والنصب على العلة، أي: لأجل لذة الشاربين. والمعنى: ما هو إلا التلذذ الخالص، ليس معه ذهاب عقل ولا خمار ولا صداع، ولا آفة من آفات الخمر "مصفي" لم يخرج من بطون النحل فيخالطه الشمع وغيره ماء حميما قيل: إذا دنا منهم شوى وجوههم، وانمازت فروة رءوسهم، فإذا شربوه قطع أمعاءهم.