لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين [ ص: 83 ]
رهبة مصدر رهب المبني للمفعول، كأنه قيل: أشد مرهوبية. وقوله: في صدورهم دلالة على نفاقهم، يعني: أنهم يظهرون لكن في العلانية خوف الله وأنتم أهيب في صدورهم من الله. فإن قلت: كأنهم كانوا يرهبون من الله حتى تكون رهبتهم منهم أشد. قلت: معناه أن رهبتهم في السر منكم أشد من رهبتهم من الله التي يظهرونها لكم - وكانوا يظهرون لهم رهبة شديدة من الله - ويجوز أن يريد أن اليهود يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم من الله; لأنهم كانوا قوما أولي بأس ونجدة، فكانوا يتشجعون لهم مع إضمار الخيفة في صدورهم "لا يفقهون" لا يعلمون الله وعظمته حتى يخشوه حق خشيته.
لا يقاتلونكم لا يقدرون على مقاتلتكم "جميعا" مجتمعين متساندين، يعني اليهود والمنافقين "إلا" كائنين في قرى محصنة بالخنادق والدروب أو من وراء جدر دون أن يصحروا لكم ويبارزوكم، لقذف الله الرعب في قلوبهم، وأن تأييد الله تعالى ونصرته معكم. وقرئ: "جدر"، بالتخفيف. وجدار. وجدر وجدر، وهما: الجدار.
بأسهم بينهم شديد يعني أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا; ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة; لأن الشجاع يجبن والعزيز يذل عند محاربة الله ورسوله.
تحسبهم جميعا مجتمعين ذوي ألفة واتحاد. وقلوبهم شتى متفرقة لا ألفة بينها، يعني أن بينهم إحنا وعداوات، فلا يتعاضدون حق التعاضد، ولا يرمون عن قوس واحدة. وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم قوم لا يعقلون أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم ويعين على أرواحهم كمثل الذين من قبلهم أي: مثلهم كمثل أهل بدر في زمان قريب.
فإن قلت: بم انتصب "قريبا"؟ قلت: بمثل، على: كوجود مثل أهل بدر قريبا. ذاقوا وبال أمرهم سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، من قولهم كلأ وبيل: وخيم سيئ العاقبة، يعني: ذاقوا عذاب القتل في الدنيا "ولهم" في الآخرة عذاب النار مثل المنافقين في إغرائهم اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر، ثم متاركتهم لهم وإخلافهم.
كمثل الشيطان إذا استغوى الإنسان بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة، والمراد استغواؤه قريشا يوم بدر; وقوله لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم إلى قوله: إني بريء منك [الحشر: 16]. وقرأ : "خالدان فيها"، على أنه خبر أن، و"في النار" لغو، وعلى القراءة المشهورة: الظرف مستقر، وخالدين فيها: حال. وقرئ: "أنا بريء" وعاقبتهما بالرفع. ابن مسعود