آلآن : أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق، وأيست من نفسك، قيل: قال ذلك حين ألجمه الغرق يعني: حين أوشك أن يغرق، وقيل: قاله بعد أن غرق في نفسه، والذي يحكى أنه حين قال: "آمنت" أخذ جبريل من حال البحر فدسه في فيه، فللغضب لله على الكافر في وقت قد علم أن إيمانه لا [ ص: 170 ] ينفعه، وأما ما يضم إليه من قولهم: خشية أن تدركه رحمة الله فمن زيادات الباهتين لله [ ص: 171 ] وملائكته، وفيه جهالتان; إحداهما: أن كإيمان الأخرس، فحال البحر لا يمنعه، والأخرى: أن الإيمان يصح بالقلب [ ص: 172 ] لأن الرضا بالكفر كفر، من كره إيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر، فهو كافر; من المفسدين : من الضالين المضلين عن الإيمان، كقوله: الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون [النحل: 98 ]، وروي أن جبريل -عليه السلام- أتاه بفتيا: ما قول الأمير في عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته، فكفر نعمته، وجحد حقه، وادعى السيادة دونه ؟ فكتب فرعون فيه: يقول أبو العباس الوليد بن مصعب: جزاء نعماه أن يغرق في البحر، فلما ألجمه الغرق، ناوله العبد الخارج على سيده الكافر جبريل خطه فعرفه، ننجيك : بالتشديد والتخفيف: نبعدك مما وقع فيه قومك من قعر البحر. وقيل: نلقيك بنجوة من الأرض، وقرئ: "ننحيك" بالحاء: نلقيك بناحية مما يلي البحر، وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب البحر، قال : رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور، كعب ببدنك : في موضع الحال، أي: في الحال التي لا روح فيك، وإنما أنت بدن، أو ببدنك كاملا سويا لم ينقص منه شيء ولم يتغير، أو عريانا لست إلا بدنا من غير لباس، أو بدرعك; قال عمرو بن معد يكرب [من الوافر]:
أعاذل شكتي بدني وسيفي ... وكل مقلص سلس القياد
وكانت له درع من ذهب يعرف بها، وقرأ -رحمه الله-: "بأبدانك" وهو على وجهين: إما أن يكون مثل قولهم: هوى بأجرامه، يعني: ببدنك كله وافيا بأجزائه، أو يريد: بدروعك كأنه كان مظاهرا بينها، أبو حنيفة لمن خلفك آية : لمن وراءك من الناس علامة، وهم بنو إسرائيل، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأنا من أن يغرق، وروي أنهم قالوا: ما مات فرعون، ولا يموت أبدا. وقيل: أخبرهم موسى بهلاكه فلم يصدقوه، فألقاه الله على الساحل حتى عاينوه، وكأن مطرحه كان على ممر من بني إسرائيل حتى قيل: لمن خلفك، وقيل: "لمن خلفك": لمن يأتي بعدك من القرون، ومعنى كونه آية: أن تظهر للناس عبوديته ومهانته، وأن ما كان يدعيه من الربوبية باطل محال، وأنه مع ما كان فيه من عظم الشأن وكبرياء الملك آل أمره إلى ما ترون لعصيانه ربه -عز وجل- فما الظن بغيره، أو لتكون عبرة تعتبر بها الأمم بعدك، فلا يجترئوا على نحو ما اجترأت عليه إذا سمعوا [ ص: 173 ] بحالك وبهوانك على الله، وقرئ: "لمن خلقك" بالقاف، أي: لتكون لخالقك آية كسائر آياته. ويجوز أن يراد: ليكون طرحك على الساحل وحدك وتمييزك من بين المغرقين -لئلا يشتبه على الناس أمرك، ولئلا يقولوا- لادعائك العظمة إن مثله لا يغرق ولا يموت آية من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وليعلموا أن ذلك تعمد منه لإماطة الشبهة في أمرك .