وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا
هذه المقالة روي أن بني حارثة قالوها، وبيوتهم بحدود المدينة، وقال : مقاتل بنو سلمة، وقيل: القائل لذلك عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه. وقرأ السلمي ، وحفص ، واليماني، : "لا مقام" بضم الميم، بمعنى: لا موضع قيام، وهي قراءة والأعرج ، أبي جعفر وشيبة ، ، وأبي رجاء ، والحسن ، وقتادة ، والنخعي وعبد الله بن مسلم ، ، والمعنى: في حومة القتال وموضع الممانعة. وطلحة "فارجعوا" معناه: إلى منازلكم وبيوتكم، وكان هذا على جهة التخذيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والفريق المستأذن، روي أن أوس بن قيظي، استأذن في ذلك عن اتفاق من عشيرته، فقال: إن بيوتنا عورة، أي منكشفة للعدو، وقيل: أراد: خالية للسراق، ويقال: أعور المنزل إذا انكشف، ومنه قول الشاعر:
لنا الشدة الأولى إذا القرن أعورا
[ ص: 99 ] قال رضي الله عنهما: الفريق ابن عباس بنو حارثة، وهم كانوا عاهدوا الله إثر أحد لا يولون الأدبار، وقرأ ، ابن عباس ، وابن يعمر ، وقتادة : "عورة" بكسر الواو فيهما، وهو اسم فاعل، قال وأبو رجاء أبو الفتح: "صحة الواو في هذه شاذة، لأنها متحركة قبلها فتحة"، وقرأ الجمهور: "عورة" ساكنة الواو على أنه مصدر وصف به، والبيت المعمور هو المنفرد المعرض لمن شاءه بسوء، فأخبر الله تعالى عن بيوتهم أنها ليست كما ذكروه، وأن قصدهم الفرار، وأن ما أظهروه من أنهم يريدون حماية بيوتهم وخاصة نفوسهم ليس كذلك، وأنهم إنما يكرهون نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويريدون خزيه وأن يغلب.
ولو دخلت المدينة من أقطارها، واشتد الخوف الحقيقي، ثم سئلوا الفتنة والحرب لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم لطاروا إليها وأتوها مجيبين فيها، ولم يتلبثوا في بيوتهم لحفظها إلا يسيرا، قيل: قدر ما يأخذون سلاحهم. وقرأ : "ثم سولو الفتنة" بغير همز، وهي من سال يسال كخاف يخاف، لغة في "سأل" العين فيها واو، وحكى الحسن البصري أبو زيد : هما يتساولان، وروي عن "سلوا الفتنة"، وقرأ الحسن: : "سوئلوا" بالمد. وقرأ مجاهد ، ابن كثير ، ونافع : "لأتوها" بمعنى لجاؤوها، وقرأ وابن عامر ، عاصم : "لآتوها" بمعنى: لأعطوها من أنفسهم، وهي قراءة وأبو عمرو ، حمزة ، فكأنها رد على السؤال ومشبهة له، قال والكسائي : وقرأها النبي عليه الصلاة والسلام بالمد. الشعبي
ثم أخبر عنهم تبارك وتعالى أنهم قد كانوا عاهدوا على أن لا يفروا، وروي عن [ ص: 100 ] يزيد بن رومان أن هذه الإشارة إلى بني حارثة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهم مع بني سلمة كانتا الطائفتين اللتين همتا بالفشل يوم أحد، ثم تابوا وعاهدا على أن لا يقع فرار، فوقع يوم الخندق من بني حارثة.
وفي قوله تعالى: وكان عهد الله مسؤولا توعد. و"الأقطار": النواحي، واحدها قطر وقتر، والضمير في بها يحتمل المدينة ويحتمل البيوت.