قوله عز وجل:
يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما
قرأ الجمهور: "اللاتي" بالتاء من فوق، وقرأ : "اللايي" بياء من تحت. وذهب الأعمش ، ابن زيد في تفسير قوله: والضحاك إنا أحللنا لك أزواجك إلى أن المعنى أن الله تعالى أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها، وأباح له تعالى كل النساء بهذا الوجه، وأباح له ملك اليمين، وبنات العم والعمة والخال والخالة ممن هاجر معه، وخصص هؤلاء بالذكر تشريفا وتنبيها; منهن إذ قد تناولهن - على تأويل - قوله: ابن زيد يا أيها النبي إنا أحللنا ، وأباح له الواهبات خاصة له، فهذه - على تأويل - إباحة مطلقة في جميع النساء حاشى ذوات المحارم، لا سيما - على ما ذكره ابن زيد [ ص: 131 ] أن في مصحف الضحاك "وبنات خالاتك واللاتي هاجرن معك". ثم قال - بعد هذا - ابن مسعود ترجي من تشاء منهن أي: من هذه الأصناف كلها، ثم تجري الضمائر بعد ذلك على العموم إلى قوله: ولا أن تبدل بهن من أزواج فيجيء هذا الضمير مقطوعا من الأول عائدا على أزواجه التسع فقط، على الخلاف في ذلك.
وتأول غير قوله: ابن زيد يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي أن الإشارة إلى حفصة رضي الله عنهما ومن في عصمته ممن تزوجن بمهر، وأن ملك اليمين بعد حلال له، وأن الله تعالى أباح له صلى الله عليه وسلم مع المذكورات بنات عمه وعماته وخاله وخالاته ممن هاجر معه، والواهبات خاصة له صلى الله عليه وسلم، فيجيء الأمر - على هذا التأويل - أضيق على النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيد هذا التأويل ما قاله وعائشة رضي الله عنهما: ابن عباس "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج في أي الناس شاء، وكان ذلك يشق على نسائه، فلما نزلت هذه الآية وحرم عليه الناس إلا من سمي سر نساؤه بذلك".
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
لأن ملك اليمين إنما تعلقه في النادر من الأمر، وبنات العم والعمات والخال والخالات يسير، ومن يمكن أن يتزوج منهن محصور عند نسائه، لا سيما وقد قيد ذلك شرط الهجرة، وكذا الواهبة من النساء قليل، فلذلك سر أزواجه بانحصار الأمر، ثم يجيء قوله: ترجي من تشاء منهن إشارة إلى من تقدم ذكره، ثم يجيء قوله: ولا أن تبدل بهن من أزواج إشارة إلى أزواجه اللواتي تقدم النص عليهن بالتحليل، فيأتي الكلام منسقا مطردا أكثر من اطراده على التأويل الأول. والأجور: المهور.
وقوله: مما أفاء الله عليك أي رده إليك في الغنائم، يريد: أو على أمتك لأنه فيء عليه. وملك اليمين أصله الفيء من الغنائم، أو ما تناسل ممن سبي، والشراء من [ ص: 132 ] الحربيين كالسباء، ويباح السباء من الحربيين، ولا يجوز سبي من له عهد ولا تملكه، ويسمى سبي الخبثة.
وقوله تعالى: وبنات عمك روي أنها قالت: "خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتذرت إليه فعذرني، ثم نزلت هذه الآية فحرمني عليه لأني لم أهاجر معه، وإنما كنت من الطلقاء". أم هانئ بنت أبي طالب عن
وقرأ جمهور الناس: "إن وهبت" بكسر الألف، وهذا يقتضي استئناف الأمر، أي: إن وقع فهو حلال له، على أنه قد روي عن رضي الله عنهما أنه قال: ابن عباس "لم تكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين. فأما بالهبة فلم يكن عنده منهن أحد". وقرأ ، الحسن البصري ، وأبي بن كعب والثقفي، : "أن وهبت" بفتح الألف، فهي إشارة إلى ما وقع من الواهبات قبل نزول الآية، وكسر الألف يجري مع تأويل والشعبي الذي قدمناه، وفتحها يجري مع التأويل الآخر، ومن قرأ بالفتح قال: الإشارة إلى من ابن زيد وهب نفسه للنبي صلى الله عليه وسلم من النساء على الجملة، قال رضي الله عنهما - فيما حكى ابن عباس -: هي الطبري ، وقال ميمونة بنت الحارث : هي علي بن الحسين . أم شريك
وقال الشعبي : هي وعروة ، وقال أيضا زينب بنت خزيمة أم المساكين : عروة بن الزبير ، وفي مصحف خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمي : "وامرأة مؤمنة وهبت"، دون "إن". ابن مسعود
[ ص: 133 ] وقوله: خالصة لك أي: هبة النساء أنفسهن خاصة ومزية "لا تجوز"، فلا يجوز أن تهب المرأة نفسها لرجل، وأجمع الناس على أن ذلك غير جائز; إلا ما روي عن ، أبي حنيفة ومحمد بن الحسن، وأبي يوسف أنهم قالوا: إذا وهبت وأشهد هو على نفسه بمهر فذلك جائز.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فليس في قولهم إلا تجويز العبارة وبلفظة الهبة، وإلا فالأفعال التي اشترطوها هي أفعال النكاح بعينه، ويظهر من لفظ رضي الله عنه أن معنى قوله: أبي بن كعب خالصة لك يراد به جميع هذه الإباحة، لأن المؤمنين قصروا على مثنى وثلاث ورباع.
وقوله: "قد علمنا" الآية، يريد: فرضنا الولي والشاهد والمهر والاقتصار على أربع، قاله قتادة ، وقال ومجاهد : هو مثنى وثلاث ورباع. وقوله: "لئلا يكون" أي: بينا هذا البيان، وشرحنا هذا الشرح لئلا يكون عليك حرج ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك في شيء، ثم آنس الجميع من المؤمنين بغفرانه ورحمته. أبي بن كعب