قوله عز وجل:
ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا
"ترجي" معناه: تؤخر، وقرأ ، ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : "ترجئ" بالهمز، وقرأ وعاصم - في رواية عاصم حفص - ، وحمزة : "ترجي" بغير همز، وهما لغتان بمعنى. والكسائي "وتؤوي" معناه: تضم وتقرب، وقال : هو معدى "رجا يرجو"، تقول: "رجا الرجل وأرجيته" جعلته ذا رجاء. المبرد
ومعنى هذه الآية أن الله تعالى فسح لنبيه فيما يفعله في جهة النساء، والضمير في "منهن" عائد على من تقدم ذكره من الأصناف حيث الخلاف المذكور في ذلك.
[ ص: 134 ] وهذا الإرجاء والإيواء يحتمل معاني: منها في القسم، أي: تقرب من شئت في القسمة لها من نفسك، وتؤخر عنك من شئت، وتكثر لمن شئت، وتقل لمن شئت، لا حرج عليك في ذلك، فإذا علمن هن أن هذا هو حكم الله تعالى لك وقضاؤه زالت الأنفة والتغاير عنهن ورضين وقرت أعينهن وهذا تأويل ، مجاهد ، وقتادة ; لأن سبب هذه الآيات إنما كان تغايرا - وقع بين زوجات النبي عليه الصلاة والسلام - عليه، فشقي بذلك، ففسح الله تبارك وتعالى له، وأنبهن بهذه الآيات. والضحاك
وقال ، ابن زيد : في طلاق من شاء ممن حصل في عصمته، وإمساك من شاء، قال وابن عباس : ابن زيد سودة وجويرية وصفية وأم حبيبة ، وآوى إليه وميمونة عائشة وأم سلمة وحفصة رضي الله عنهن أجمعين. وزينب وكان عليه الصلاة والسلام قد هم بطلاق بعض نسائه، فقلن له: اقسم لنا ما شئت، فكان ممن أرجأ
وقال المعنى: في تزويج من شاء من النساء وترك من شاء، وقالت فرقة: المعنى: في ضم من شاء من الواهبات وتأخير من شاء. الحسن بن أبي الحسن:
وعلى كل معنى فالآية معناها التوسعة عليه - صلى الله عليه وسلم والإباحة; رضي الله عنها: لما قرأ علي رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. عائشة قالت
وذهب هبة الله في "الناسخ والمنسوخ" له إلى أن قوله: ترجي من تشاء الآية ناسخ قوله لا يحل لك النساء الآية، وقال: ليس في كتاب الله تعالى ناسخ تقدم المنسوخ سوى هذا. وكلامه يضعف من جهات.
[ ص: 135 ] وقوله عز وجل: ومن ابتغيت ممن عزلت يحتمل معاني: أحدهما أن تكون "من" للتبعيض، أي: من أردته وطلبته نفسك ممن كنت عزلته وأخرته فلا جناح في رده إلى نفسك وإيوائه إليك بعد عزلته. ووجه ثان وهو أن يكون مقويا ومؤكدا لقوله: ( ترجي من تشاء وتؤوي من تشاء ) ، فيقول بعد: ومن ابتغيت ممن عزلت فذلك سواء لا جناح عليك في جميعه، وذلك كما تقول: "من لقيك ممن لم يلقك جميعهم لك شاكرين"، وأنت تريد: "من لقيك ومن لم يلقك"، وهذا المعنى يصح أن يكون في معنى القسم، ويصح أن يكون في الطلاق والإمساك، وفي الواهبات، وبكل واحد قالت فرقة.
وقرأ الجمهور: "ذلك أدنى أن تقر أعينهن" برفع الأعين، وقرأ ابن محيصن: "أن تقر" بضم التاء من "تقر" وكسر القاف "أعينهن" نصبا. وقوله: "بما آتيتهن" أي: من نفسك . وقرأ جمهور الناس: ومالك "كلهن" بالرفع على التأكيد للضمير في "يرضين"، ولم يجوز غيرها، وقرأ الطبري جويرة بن عابد: "كلهن" بالنصب على تأكيد ضمير "آتيتهن"، والمعنى أنهن يسلمن لله ولحكمه، وكن قبل لا يتسامحن بينهن للغيرة، ولا يسلمن للنبي صلى الله عليه وسلم أنفة، نحا إلى هذا المعنى ، ابن زيد . وقتادة
وقوله تعالى: والله يعلم ما في قلوبكم خبر عام، والإشارة إلى ما في قلب [ ص: 136 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص، وكذلك يدخل في المعنى أيضا المؤمنون. وقوله: "حليما" صفة تقتضي منه تبارك وتعالى صفحا وتأنيسا في هذا المعنى; إذ هي خواطر وفكر لا يملكها الإنسان في الأغلب.
واتفقت الروايات على أنه عليه الصلاة والسلام عدل بينهن في القسمة حتى مات، ولم يمتثل ما أبيح له معهن ضبطا لنفسه، وأخذا بالفضل، غير أن وهبت يومها سودة توصلا لمسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. لعائشة
وقوله تعالى: لا يحل لك النساء من بعد ، قيل كما قدمنا: إنها خطرت عليه النساء إلا التسع اللواتي كن عنده، فكأن الآية ليست متصلة بما قبلها. قال ، ابن عباس رضي الله عنهم، لما هجرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا وآلى منهن، ثم خرج وخيرهن فاخترن الله ورسوله، جازاهن الله بأن حظر عليه النساء غيرهن، وقنعه بهن، وحظر عليه تبديلهن، ونسخ بذلك ما أباحه له من قبل من التوسعة في جميع النساء. وقال وقتادة أبي بن كعب : وعكرمة لا يحل لك النساء من بعد أي: من بعد الأصناف المسماه. ومن قال بأن الإباحة كانت له مطلقة قال هنا: لا يحل لك النساء معناه: لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات، وهذا تأويل فيه بعد وإن كان روي عن ، وكذلك قدر: ولا أن تبدل اليهوديات والنصرانيات بالمسلمات، وهذا قول مجاهد أبي رزين، . وقال وسعيد بن جبير : أبي بن كعب لا يحل لك النساء من بعد يعني: لا يحل لك العمات ولا الخالات ونحوهن، وأمر مع ذلك بأن لا يتبدل بأزواجه التسع، ومنع أن يطلق منهن ويتزوج غيرهن، قاله . وقيل: بمن تزوج وحصل في عصمته، أي: لا يبدلها بأن يأخذ زوجة إنسان ويعطيه هو زوجته، قال الضحاك : وهذا شيء كانت العرب تفعله. وهذا قول ضعيف أنكره ابن زيد وغيره في معنى الآية، وما فعلت العرب هذا قط، وما روي من حديث الطبري عيينة بن حصن أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رضي الله عنها فقال: "من هذه الحميراء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه عائشة ، فقال عائشة عيينة: يا رسول الله، إن شئت نزلت لك عن سيدة العرب جمالا ونسبا" فليس بتبديل ولا أراد ذلك، وإنما احتقر لأنها كانت صبية فقال هذا القول. وقرأ عائشة - بخلاف -: "تحل" [ ص: 137 ] بالتاء على معنى: جماعة النساء، وقرأ الباقون بالياء من تحت، على معنى: جميع النساء، وهما حسنان; لأن تأنيث لفظ النساء ليس بحقيقي. أبو عمرو
وقوله تعالى: ولو أعجبك حسنهن ، قال رضي الله عنهما: نزل ذلك بسبب ابن عباس ، أعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم حسنها حين مات عنها أسماء بنت عميس ، [فأراد أن يتزوجها]، جعفر بن أبي طالب وفي هذه اللفظة: أعجبك حسنهن دليل على جواز أن وقد ينظر الرجل إلى من يريد زواجها، زواج امرأة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "انظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما"، المغيرة بن شعبة وقال صلى الله عليه وسلم لآخر: أراد الأنصار شيئا"، قال "انظر إليها فإن في أعين الحميدي : يعني: صفراء، وقال سهل بن أبي حثمة: [ ص: 138 ] يطارد محمد بن مسلمة بييتة بنت الضحاك على إجار من أجاجير المدينة، فقلت له: أتفعل هذا؟ فقال: نعم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا ألقى الله في قلب أحدكم خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها". رأيت
وقوله تعالى: إلا ما ملكت يمينك . "ما" في موضع رفع بدل من "النساء"، ويجوز أن تكون في موضع نصب على الاستثناء، وفي النصب ضعف، ويجوز أن تكون "ما" مصدرية، والتقدير: إلا ملك يمينك، بمعنى "مملوك"، وهو في موضع نصب لأنه استثناء من غير الجنس الأول. و"الرقيب" فعيل بمعنى فاعل، أي: راقب.