يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما
هذه الآية تتضمن قصتين: إحداهما والثانية في أمر الحجاب. الأدب في أمر الطعام والجلوس،
فأما الأولى فالجمهور من المفسرين على أن سببها أولم عليها، فدعا الناس، فلما طعموا قعد نفر في طائفة من البيت، فثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم، فخرج ليخرجوا بخروجه، ومر على حجر نسائه، ثم عاد فوجدهم في مكانهم زينب بنت [ ص: 139 ] جحش في البيت معهم، فلما دخل ورآهم انصرف، فخرجوا عند ذلك، قال وزينب : فأعلم أو أعلمته بانصرافهم فجاء، فلما وصل الحجرة أرخى الستر بيني وبينه ودخل، ونزلت الآية بسبب ذلك. أنس وقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج ، قتادة - في كتاب ومقاتل -: إن هذا السبب جرى في بيت الثعلبي ، والأول أشهر، وقال أم سلمة رضي الله عنهما: نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي عليه الصلاة والسلام، فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك، ثم يأكلون ولا يخرجون، وقال ابن عباس إسماعيل بن أبي حكيم: هذا أدب أدب الله تعالى به الثقلاء، وقال ابن أبي عائشة في كتاب : بحسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم. الثعلبي
وأما فقال آية الحجاب وجماعة: سببها أمر القعود في بيت أنس بن مالك ، القصة المذكورة آنفا، وقالت فرقة: بل في بيت زينب ، وقال أم سلمة : نزلت آية الحجاب بسبب ذلك، وقالت مجاهد رضي الله عنها وجماعة: سبب الحجاب عائشة رضي الله عنه، وأنه كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا في أن يحجب نساءه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفعل، وكان عمر يتابع، فخرجت عمر ليلا لحاجتها - وكانت امرأة تفرع النساء طولا - فناداها سودة رضي الله عنه: قد عرفناك يا عمر - حرصا على الحجاب - وقالت له سودة : عجبنا لك يا زينب بنت جحش ، تغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا؟ فما زال ابن الخطاب رضي الله عنه يتابع حتى نزلت آية الحجاب. عمر كلام
[ ص: 140 ] وقال رضي الله عنه: وافقت ربي في ثلاث: منها الحجاب، ومقام عمر بن الخطاب إبراهيم، و عسى ربه إن طلقكن . الحديث.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى دار الدعوة، ينتظر طبخ الطعام ونضجه في حديث ، وكذلك إذا انتهوا منه جلسوا كذلك، فنهى الله تعالى المؤمنين عن أمثال ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل في النهي سائر المؤمنين، والتزم الناس أدب الله تعالى لهم في ذلك، فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل، لا قبله لانتظار نضج الطعام. وأنس
و"ناظرين" معناه: منتظرين، و"إناه" مصدر أنى الشيء يأني إذا فرغ وحان إنى، ومنه قول الشاعر:
تمخضت المنون له بيوم ... أنى ولكل حاملة تمام
وقرأ الجمهور بفتح النون من "إناه"، وأمالها حمزة . والكسائي
[ ص: 141 ] ثم أكد المنع وحصر وقت الدخول بأن يكون عند الإذن، ثم أمر بعد الطعام بأن يفترق جمعهم وينتشر.
وقوله تعالى: ولا مستأنسين لحديث عطف على قوله: غير ناظرين ، و"غير" منصوبة على الحال من الكاف والميم في "لكم أي: غير ناظرين ولا مستأنسين. وقرأ : "غير" بكسر الراء، وجوازه على تقدير: غير ناظرين إناه أنتم. وقرأ ابن أبي عبلة : "إناه" على جمع "إنى" بمدة بعد النون. وقرأت فرقة: "فيستحيي" بإظهار الياء المكسورة قبل الساكنة، وقرأت فرقة: "فيستحي" بسكون الياء دون ياء مكسورة قبلها. وقوله: الأعمش والله لا يستحيي معناه: لا يقع منه ترك قول الحق، ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء نفى عن الله تعالى العلة الموجبة لذلك في البشر.
وقوله تعالى: وإذا سألتموهن متاعا الآية هي آية الحجاب، و"المتاع" عام في جميع ما يمكن أن يطلب على عرف السكنى والمجاورة من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا. ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن يريد من الخواطر التي تعرض للنساء في أمر الرجال.
قوله تعالى: وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله الآية، روي أنها نزلت بسبب أن بعض الصحابة قال: "لو مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتزوجت "، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأذى به، عائشة هكذا كنى عنه بـ"بعض الصحابة"، وحكى ابن عباس عن مكي أنه قال: "هو معمر ". طلحة بن عبيد الله
[ ص: 142 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
لله در رضي الله عنهما، وهذا عندي لا يصح على ابن عباس ، الله عاصمه منه، وروي طلحة أن رجلا من المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أم سلمة أبي سلمة ، بعد وحفصة خنيس بن حذافة . "ما بال محمد يتزوج نساءنا، والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه"، فنزلت الآية في هذا، وجعل لهن حكم الأمهات، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت وحرم الله نكاح أزواجه بعده، العرب ثم رجعت تزوج عكرمة بن أبي جهل قتيلة بنت الأشعث بن قيس ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوجها ولم يبن بها، فصعب ذلك على رضي الله عنه وقلق له، فقال له أبي بكر الصديق رضي الله عنه: مهلا، إنها ليست من نسائه، إنه لم يخيرها ولا أرخى عليها حجابا، وقد أبانتها منه ردتها مع قومها، فسكن عمر رضي الله عنه، وذهب أبو بكر إلى ألا يشهد جنازة عمر إلا ذو محرم منها مراعاة للحجاب فدلته زينب بنت جحش على سترها في النعش بالقبة، وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد أسماء بنت عميس الحبشة فصنعه، وروي أن ذلك صنع في جنازة بنت النبي صلى الله عليه وسلم. فاطمة