وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب
"ينظر" بمعنى: ينتظر، وهذا إخبار من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، صدقه الوجود، فالصيحة - على هذا التأويل - عبارة عن جميع ما نابهم من قتل وأسر وغلبة، وهذا كما تقول: صاح فيهم الدهر، وقال : توعدهم بصيحة القيامة والنفخ في الصور، قال قتادة : روي هذا التفسير مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقالت طائفة: توعدهم تعالى [ ص: 329 ] بصيحة يهلكون بها في الدنيا، وعلى هذين التأويلين فمعنى الكلام أنهم بمدرج عقوبة، وتحت أمر خطير، ما ينتظرون فيه إلا الهلكة، وليس معناه التوعد بشيء معين ينتظره الثعلبي محمد صلى الله عليه وسلم فيه كالتأويل الأول. وقرأ الجمهور: "فواق" بفتح الفاء، وقرأ ، حمزة ، والكسائي ، وابن وثاب ، والأعمش : "فواق" بضم الفاء. قال وأبو عبد الرحمن ، وغيره: هما بمعنى واحد، أي: ما لها من انقطاع وعودة، بل هي متصلة حتى مهلكهم، ومنه: "فواق الحلبة": المهلة التي بين الشخبتين، وجعلوه مثل قصاص الشعر وقصاصه، وغير ذلك، ومنه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ابن عباس "من رابط فوق ناقة حرم الله جسده على النار". وقال ، ابن زيد ، وأبو عبيدة ومؤرج، : المعنى مختلف، الضم كما تقدم من معنى فواق، والفتح بمعنى الإفاقة، أي: ما يكون لهم بعد هذه الصيحة إفاقة ولا استراحة، ففواق مثل جواب، من أجاب. والفراء
ثم ذكر عز وجل عنهم أنهم قالوا: ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ، والقط: الحظ والنصيب، والقط أيضا: الصك والكتاب من السلطان بصلة ونحوه، ومنه قول الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بغبطته يعطي القطوط ويأفق
[ ص: 330 ] وهو من، قططت، أي: قطعت. واختلف الناس في "القط" هنا، ما أرادوا به؟ فقال : أرادوا به: عجل لنا نصيبنا من الخير والنعيم في دنيانا، وقال سعيد بن جبير ، أبو العالية : أرادوا: عجل لنا صحفنا بأيماننا، وذلك لما سمعوا في القرآن أن الصحف تعطى يوم القيامة بالأيمان والشمائل قالوا ذلك، وقال والكلبي ، وغيره: أرادوا ضد هذا من العذاب ونحوه، فهذا نظير قولهم: ابن عباس فأمطر علينا حجارة من السماء . وقال : المعنى: أرنا منازلنا في الجنة حتى نتابعك. السدي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله
وعلى كل تأويل، فكلامهم خرج على جهة الاستخفاف والهزء، ويدل على ذلك ما علم من كفرهم واستمر، ولفظ الآية يعطي إقرارا بيوم الحساب.
وقوله تعالى: اصبر على ما يقولون ، أي: من هذه الأقاويل التي يريدون بها الاستخفاف، ولا تلتفت إليها، واذكر عبدنا داود ذا الأيد في الدين والصدع به، فتأس به وتأيد كما تأيد، و"الأيد": القوة، وهي في داود متضمنة قوة البدن وقوته على الطاعة. و"الأواب": الرجاع إلى طاعة الله تعالى، وقاله مجاهد ، وفسره وابن زيد بالمسبح، وذكر السدي أن الثعلبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا هريرة "الزرقة يمن"، وكان داود أزرق، وأخبر تبارك وتعالى عما وهب لداود من الكرامة في أن سخر الجبال معه تسبح، وظاهر الآية عموم الجبال، وقالت فرقة: بل هي الجبال التي كان فيها وعندها، وتسبيح الجبال هنا حقيقة. و"الإشراق": وقت ضياء الشمس وارتفاعها، ومنه قولهم: "أشرق ثبير كيما نغير"، أي: ادخل في الشروق. وفي [ ص: 331 ] هذين الوقتين كانت صلاة بني إسرائيل، وقال رضي الله عنهما: صلاة الضحى عندنا هي صلاة الإشراق، وهي في هذه الآية. ابن عباس
وقوله: "والطير" عطف على "الجبال"، أي: وسخرنا الطير، و"محشورة" نصب على الحال، ومعناه: مجموعة، وقرأ : [والطير محشورة] بالرفع فيهما، والضمير في "له" قالت فرقة: هو عائد على الله تعالى، فـ "كل" على هذا يراد به: ابن أبي عبلة داود، والجبال، والطير. وقالت فرق: هو عائد على داود عليه السلام، و"كل": الجبال والطير.
وقوله تعالى: وشددنا ملكه عبارة عامة لجميع ما وهبه الله تعالى من قوة وخير ونعمة ، وقد خصص بعض المفسرين في ذلك أشياء دون أشياء، فقال ; بالجنود، وقال آخرون: بهيبة جعلها الله تعالى له، وقرأ الجمهور: السدي "وشددنا" بتخفيف الدال الأولى، وروي عن (شددنا) بشدها على المبالغة. و الحسن: الحكمة : الفهم في الدين وجودة النظر، هذا قول فرقة، وقالت فرقة: أراد بـ (الحكمة) النبوة، وقال : الحكمة; العلم الذي لا ترده العقول. أبو العالية
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
هي عقائد البرهان.
واختلف الناس في "فصل الخطاب"، فقال ، ابن عباس ، ومجاهد : هو فصل القضاء بين الناس بالحق وإصابته وفهمه. وقال والسدي رضي الله عنه، [ ص: 332 ] علي بن أبي طالب ، وشريح : هو إيجاب اليمين على المدعى عليه، والبينة على المدعي، وقال والشعبي زياد ، أيضا: أراد قول: "أما بعد"، فإنه أول من قالها. والشعبي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله
والذي يعطيه لفظ الآية أن الله تعالى آتاه أنه كان إذا خاطب في نازلة فصل المعنى وأوضحه، وبينه، لا يأخذه في ذلك حصر ولا ضعف، وهذه صفة قليل من يدركها، فكان كلامه عليه السلام فصلا، وقد قال الله تبارك وتعالى في صفة القرآن: إنه لقول فصل ، ويزيد محمد صلى الله عليه وسلم على هذه الدرجة بالإيجاز في العبارة، وجمع المعاني الكثيرة في اللفظ اليسير، وهذا هو الذي تخصص - عليه الصلاة والسلام به في قوله: فإنها في الخلال التي لم يؤتها أحد قبله، وذكر "جوامع الكلم" معدود ومسلم له صلى الله عليه وسلم. "وأعطيت جوامع الكلم"،