واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب جنات عدن مفتحة لهم الأبواب متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب وعندهم قاصرات الطرف أتراب هذا ما توعدون ليوم الحساب إن هذا لرزقنا ما له من نفاد
قرأ : "واذكر عبدنا" على الإفراد، وهي قراءة ابن كثير رضي الله عنهما [ ص: 355 ] وأهل ابن عباس مكة، وقرأ الباقون: واذكر عبادنا على الجمع، فأما على هذه القراءة فدخل الثلاثة في الذكر وفي العبودية، وأما على قراءة من قرأ: "عبدنا" فقال وغيره: دخلوا في الذكر، ولم يدخلوا في العبودية إلا من غير هذه الآية، وفي هذا نظر، وتأول قوم من المتأولين من هذه الآية أن الذبيح إسحاق، من حيث ذكره الله تعالى بعقب ذكر مكي أيوب أنبياء امتحنهم بمحن كما امتحن أيوب، ولم يذكر إسماعيل لأنه ممن لم يمتحن.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله
وهذا ضعيف كله.
وقرأ الجمهور: "أولي الأيدي"، وقرأ الحسن، والثقفي، ، والأعمش : "أولي الأيد" بحذف الياء، وأما أولو فهو جمع "ذو"، وأما القراءة الأولى فـ"الأيدي" فيها عبارة عن القوة في طاعة الله، قاله وابن مسعود ، ابن عباس . وقالت فرقة: بل معناه: أولي الأيدي والنعم التي أسداها الله إليهم: من النبوة والمكانة. وقال قوم: المعنى: أيدي الجوارح، والمراد الأيدي المتصرفة في الخير، والأبصار الثاقبة فيه، لا كالتي هي مهملة في جل الناس. وأما من قرأ: "الأيد" دون ياء فيحتمل أن تكون كالتي بالياء وحذفت تخفيفا، ومن حيث كانت الألف واللام تعاقب التنوين وجب أن تحذف معها كما تحذف مع التنوين. وقالت فرقة: "الأيد" معناها: القوة، والمراد: طاعة الله تعالى. وقوله تعالى: ومجاهد "والأبصار" عبارة عن البصائر، أي: يبصرون الحقائق، وينظرون بنور الله تعالى، وبنحو هذا فسر الجميع.
وقرأ وحده: "بخالصة ذكرى" على الإضافة، وهي قراءة نافع ، أبي جعفر ، والأعرج وشيبة . وقرأ الباقون: "بخالصة ذكرى" منونا، وقرأ : "بخالصتهم ذكرى"، وهي قراءة الأعمش . ويحتمل أن يكون "خالصة" اسم فاعل، كأنه عبر بها عن مزية أو رتبة، فأما من أضافها; "فذكرى" مخفوض بالإضافة، وأما من نون; فـ"ذكرى" بدل من "خالصة"، ويحتمل أن تكون "خالصة" مصدرا كالعافية، وخائنة الأعين، وغيرها، فـ"ذكرى" - على هذا - إما أن يكون في موضع نصب بالمصدر على تقدير: إنا أخلصناهم بأن أخلصنا لهم ذكرى الدار، ويكون "خالصة" مصدرا، من: أخلص، على حذف الزوائد، وإما أن يكون "ذكرى" في موضع رفع بالمصدر، على [ ص: 356 ] تقدير: إنا أخلصناهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار، وتكون "خالصة" من: خلص. و"الدار" في كل وجه في موضع نصب بـ"ذكرى"، و"ذكرى" مصدر. وتحتمل الآية أن يريد بالدار دار الآخرة، على معنى: أخلصناهم بأن خلص لهم التذكير بالدار الآخرة، ودعا الناس إليها وحضهم عليها، وهذا قول طلحة ، أو على معنى: خلص لهم ذكرهم للدار الآخرة، وخوفهم لها، والعمل بحسب ذلك، وهذا قول قتادة ، وقال مجاهد : المعنى: إنا وهبناهم أفضل ما في الدار الآخرة، وأخلصناهم به، وأعطيناهم إياه. ويحتمل أن يريد بالدار دار الدنيا، على معنى ذكر الثناء والتعظيم من الناس، والحمد الباقي الذي هو الخلد المجازى به، فتجيء الآية في معنى قوله تعالى: ابن زيد لسان صدق ، وفي معنى قوله: وتركنا عليه في الآخرين .
و"المصطفين" أصله: المصطفيين، تحركت الياء، وما قبلها مفتوح فانقلبت ألفا، ثم اجتمع سكون الألف وسكون الياء التي هي علامة الجمع فحذفت الألف. و"الأخيار" جمع خير، وخير: مخفف من خير، كميت وميت.
وقرأ حمزة "والليسع"، كأنه أدخل لام التعريف على "ليسع"، فأجراه مجرى ضيغم ونحوه، وهي قراءة والكسائي - رضي الله عنه - والكوفيين. وقرأ الباقون: "واليسع"، قال علي بن أبي طالب : الألف واللام فيه زائدتان غير معرفتين، كما هي في قول الشاعر: أبو علي
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
و"بنات الأوبر": ضرب من الكمأة. واختلف في نبوة (ذي الكفل)، وقد تقدم تفسير [ ص: 357 ] أمره وقوله تعالى: هذا ذكر يحتمل معنيين: أحدهما أن يشير إلى مدح من ذكر وإبقاء الشرف له، فيتأيد بهذا التأويل قول من قال آنفا: إن "الدار" يراد بها الدار الدنيا، والثاني أن يشير بـ"هذا" إلى القرآن، أي: هو ذكر للعالم. و"المآب": المرجع حيث يؤوبون، و"جنات" بدل من "حسن"، و"مفتحة" نعت للجنات، و"الأبواب" مفعول لم يسم فاعله، والتقدير عند الكوفيين: مفتحة لهم أبوابها، ولا يجوز ذلك عند أهل البصرة، والتقدير عندهم: الأبواب منها، وإنما دعا إلى هذا الضمير أن الصفة لا بد أن يكون فيها عائد على الموصوف.
و قاصرات الطرف ، قال : معناه: على أزواجهن، و"أتراب" معناه: أمثال، وأصله في بني قتادة آدم أن تكون الأسنان واحدة، أي: مست أجسادهم التراب في وقت واحد. وقرأ ، ابن كثير : "يوعدون" بالياء من تحت، واختلفا في سورة "ق"، فقرأها وأبو عمرو بالتاء من فوق، وقرأ الباقون في السورتين بالتاء. و"النفاد": الفناء والانقضاء. أبو عمرو