تفسير سورة غافر
هذه السورة مكية بإجماع، وقد روي في بعض آياتها أنها مدنية، وهذا ضعيف، والأول أصح، وهذه الحواميم التي روى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنس أنها ديباج القرآن، ووقفه على الزجاج رضي الله عنه، ومعنى هذه العبارة أنها خلت من الأحكام، وقصرت على المواعظ والزجر وطرق الآخرة محضا، وأيضا فهي قصار لا يلحق لقارئ فيها سآمة. وروي أن ابن مسعود روى أن النبي عليه السلام قال: عبد الله بن مسعود "من أراد أن يرتع في رياض مونقة من الجنة فليقرء الحواميم"، وهذا نحو الكلام الأول في [ ص: 419 ] المعنى. وقال عليه الصلاة والسلام: "مثل الحواميم في القرآن مثل الحبرات في الثياب".
قوله عز وجل:
حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب
تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور، وتلك الأقوال كلها تترتب في قوله: [حم]، ويختص هذا الموضع بقول آخر قاله ، الضحاك : إن [حم] هجاء (حم) بضم الحاء وشد الميم المفتوحة، كأنه يقول: "حم الأمر ووقع تنزيل الكتاب من الله"، وقال والكسائي رضي الله عنهما: "آلر، حم، و ن هي حروف "الرحمن" مقطعة في سور"، وقال ابن عباس : أقسم الله بحلمه وملكه، القرظي وسأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم عن [حم] ما هو؟ فقال: "بدء أسماء وفواتح سور".
وقرأ بفتح الحاء، وروي عن ابن كثير كسرها على الإمالة، وروي عن أبي عمرو الفتح، وروي عنه الوسط بينهما، وكذلك اختلف عن نافع ، وروي عن عاصم [ ص: 420 ] كسر الحاء على الإمالة، وقرأ جمهور الناس بفتح الحاء وسكون الميم، وقرأ عيسى أيضا حم بفتح الحاء وفتح الميم الأخيرة في النطق، ولذلك وجهان: أحدهما التحريك للالتقاء مع الياء الساكنة، والآخر: حركة إعراب، وذلك نصب بفعل مقدر تقديره: اقرأ حم، وهذا على أن تجرى مجرى الأسماء، والحجة منه قول عيسى بن عمر شريح بن أوفى العبسي:
يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم؟
وقول : الكميت
وجدنا لكم في آل حاميم آية ... تأولها منا تقي ومعرب
وقرأ أبو السمال: بكسر الميم الأخيرة، وذلك لالتقاء الساكنين، و[حم] آية.
و[تنزيل] رفع بالابتداء، والخبر في قوله تعالى: من الله وعلى القول بأن [حم] إشارة إلى حروف المعجم يكون قوله: [تنزيل] خبر ابتداء، و[الكتاب]: القرآن، وقوله [ ص: 421 ] تعالى: "غافر" بدل من المكتوبة، وإن أردت بـ"غافر" المضي - أي غفرانه في الدنيا وقضاؤه بالغفران وستره على المذنبين - فيجوز أن يكون "غافر" صفة; لأن إضافته إلى المعرفة تكون محضة، وهذا مترجح جدا، وإذا أردت بـ"غافر" الاستقبال أي غفرانه يوم القيامة - فالإضافة غير محضة، و"غافر" نكرة، فلا يكون نعتا; لأن المعرفة لا تنعت بالنكرة، وفي هذا نظر. وقال : "غافر" و"قابل" صفتان، و الزجاج شديد العقاب بدل، و"الذنب" اسم الجنس، وأما "التوب" فيحتمل أن يكون مصدرا كالعوم والنوم فيكون اسم جنس، ويحتمل أن يكون جمع توبة، كتمرة وتمر، وساعة وساع. مقطوع به; لإخبار الله تعالى، وقبول التوبة من الكافر في وجوبها قولان لأهل السنة، وحكى وقبول التوبة من العاصي عن الطبري أن رجلا جاء إلى أبي بكر بن عياش رضي الله عنه فقال: إني قتلت، فهل لي من توبة؟ فقال: نعم، اعمل ولا تيأس، ثم قرأ هذه الآية إلى قوله تعالى: " قابل التوب " . [و عمر بن الخطاب شديد العقاب صفة، وقيل: بدل].
ثم عقب تعالى هذا الوعيد بوعد ثان في قوله سبحانه: ذي الطول ، أي: ذي التطول والمن بكل نعمة، فلا خير إلا منه، فترتب في الآية وعيد بين وعدين، وهكذا رحمة الله تغلب غضبه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
سمعت هذه النزعة من أبي رضي الله عنه، وهي نحو من قول رضي الله عنه: "لن يغلب عسر يسرين"، يريد قوله تعالى: عمر فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا .
[ ص: 422 ] و"الطول": الإنعام، ومنه "ما حليت بطائل"، وحكى عن أهل الإشارة أنه تعالى غافر الذنب فضلا، وقابل التوب وعدا، وشديد العقاب عدلا. وقال الثعلبي رضي الله عنهما: الطول: السعة والغنى. ثم صدع تعالى بالتوحيد في قوله: ابن عباس لا إله إلا هو ، وبالبعث والحشر في قوله: إليه المصير .
وقوله تعالى: ما يجادل في آيات الله يريد: جدالا باطلا، لأن الجدال فيها يقع من المؤمنين لكن في إثباتها وشرحها، وقوله تعالى: فلا يغررك أنزله منزلة: "فلا يحزنك ولا يهمنك" لتدل الآية على أنهم ينبغي ألا يغتروا بإملاء الله تعالى لهم، فالخطاب له والإشارة إلى من يقع منه الاغترار، ويحتمل أن يكون [يغررك] بمعنى: تظن أن وراء تقلبهم وإمهالهم خيرا لهم، فتقول: عسى أن لا يعذبوا. وحل الفعل من الإدغام لسكون الحرف الثاني، وحيث هما متحركان لا يجوز الحل، لا تقول: زيد يغررك. وتقلبهم في البلاد عبارة عن تمتعهم بالمساكن والمزارع والأسفار وغير ذلك.
ثم مثل لهم بمن تقدمهم من الأمم، أي: كما حل بأولئك كذلك ينزل بهؤلاء. و[الأحزاب]: يريد بهم عادا وثمود أو أهل مدين وغيرهم، وفي مصحف : "برسولها"، ردا على "الأمة"، وضمير الجماعة هو على معنى الأمة لا على لفظها. وقوله تعالى: عبد الله بن مسعود ليأخذوه معناه: ليهلكوه، كقوله سبحانه: فأخذتهم ، والعرب تقول للقتيل: أخيذ، وللأسير: أخيذ، ومنه قولهم: "أكذب من الأخيذ الصبحان"، وقال [ ص: 423 ] : "ليأخذوه" معناه: ليقتلوه. و[ليدحضوا] معناه: ليزلقوا وليذهبوا، والمدحضة: المزلة والمزلقة. وقوله تعالى: قتادة فكيف كان عقاب تعجيب وتعظيم، وليس باستفهام عن كيفية وقوع الأمر.