"ألم تر" تنبيه، وهي رؤية القلب. وقرأ "ألم تر" بجزم الراء، والذي حاج علي بن أبي طالب: إبراهيم هو نمرود بن كنعان بن كوش بن حام بن نوح ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة، هذا قول مجاهد، وقتادة، والربيع والسدي، وابن إسحاق، وغيرهم - وقال وزيد بن أسلم، هو أول ملك في الأرض، وهذا [ ص: 35 ] مردود. وقال ابن جريج: هو أول من تجبر، وهو صاحب الصرح قتادة: ببابل، وقيل: إنه ملك الدنيا بأجمعها ونفذت فيها طينته، وهو أحد الكافرين، والآخر بخت نصر، وقيل: إن الذي حاج إبراهيم نمروذ بن فالخ بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح.
وفي قصص هذه المحاجة روايتان: إحداهما: ذكر أن زيد بن أسلم النمرود هذا قعد يأمر للناس بالميرة فكلما جاء قوم قال: من ربكم وإلهكم؟ فيقولون: أنت. فيقول: ميروهم، وجاء إبراهيم عليه السلام يمتار، فقال له: من ربك وإلهك؟ قال إبراهيم: "ربي الذي يحيي ويميت"، فلما سمعها نمرود قال: "أنا أحيي وأميت"، فعارضه إبراهيم بأمر الشمس فبهت الذي كفر، وقال: لا تميروه، فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء، فمر على كثيب من رمل كالدقيق فقال لو ملأت غرارتي من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهما، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلا يلعبان فوق الغرارتين، ونام هو من الإعياء، فقالت امرأته: لو صنعت له طعاما يجده حاضرا إذا انتبه، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحوارى فخبزته، فلما قام وضعته بين يديه، فقال: من أين هذا؟ فقالت: من الدقيق الذي سقت، فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك.
وقال وغيره في هذه القصص: إن الربيع، النمرود لما قال: "أنا أحيي وأميت" أحضر رجلين فقتل أحدهما، وأرسل الآخر، وقال: قد أحييت هذا، وأمت هذا، فلما رد عليه بأمر الشمس بهت.
والرواية الأخرى: ذكر أنه لما خرج السدي إبراهيم من النار أدخلوه على الملك، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه، فكلمه، وقال له: من ربك؟ قال: "ربي الذي يحيي ويميت"، قال نمروذ: "أنا أحيي وأميت" أنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا، ولا [ ص: 36 ] يطعمون شيئا، ولا يسقون حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا، وتركت اثنين فماتا، فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت.
وذكر الأصوليون في هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة، لكنه أمر له حقيقة ومجاز، قصد إبراهيم عليه السلام الحقيقة، ففزع نمروذ إلى المجاز، وموه به على قومه، فسلم له إبراهيم تسليم الجدل، وانتقل معه من المثال وجاءه بأمر لا مجاز فيه، فبهت الذي كفر ولم يمكنه أن يقول: أنا الآتي بها من المشرق، لأن ذوي الأسنان يكذبونه.
وقوله "حاج" وزنه فاعل، من الحجة، أي جاذبه إياها، والضمير في "ربه" يحتمل أن يعود على إبراهيم عليه السلام، ويحتمل أن يعود على الذي حاج، و"أن" مفعول من أجله، والضمير في " آتاه" للنمروذ، وهذا قول جمهور المفسرين، وقال المهدوي: يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم "أن آتاه" ملك النبوة، وهذا تحامل من التأويل.
وقرأ جمهور القراء: "أن أحيي" بطرح الألف التي بعد النون من "أنا" إذا وصلوا في [ ص: 37 ] كل القرآن غير فإن نافع، ورشا، وابن أبي أويس، رأوا إثباتها في الوصل إذا لقيتها همزة في كل القرآن مثل: "أنا أحيي" "أنا أخوك" إلا في قوله تعالى: وقالون إن أنا إلا نذير فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء، وتابع أصحابه في حذفها عند غير همزة. قال ضمير المتكلم الاسم فيه الهمزة والنون، ثم إن الألف تلحق في الوقف كما تلحق الهاء أحيانا في الوقف، فإذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت الهاء، فكذلك الألف، وهي مثل ألف حيهلا وهذا مثل الألف التي تلحق في القوافي، فتأمل. قال أبو علي: فإذا اتصلت الكلمة بشيء سقطت الألف لأن الشيء الذي تتصل به الكلمة يقوم مقام الألف، وقد جاءت الألف مثبتة في الوصل في الشعر - من ذلك قول الشاعر: أبو علي:
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني ... حميدا قد تذريت السناما
وقرأ الجمهور: "فبهت الذي" بضم الباء وكسر الهاء، يقال: بهت الرجل إذا انقطع وقامت عليه الحجة، قال ويقال في هذا المعنى: بهت بفتح الباء وكسر الهاء، وبهت بفتح الباء وضم الهاء. قال ابن سيده: وحكي عن بعض الطبري: العرب في هذا المعنى: بهت بفتح الباء والهاء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: هكذا ضبطت اللفظة في نسخة ابن ملول دون تقييد بفتح الباء والهاء. قال قرأ ابن [ ص: 38 ] جني: أبو حيوة: "فبهت" بفتح الباء وضم الهاء، وهي لغة في بهت بكسر الهاء. قال: وقرأ ابن السميفع: "فبهت" بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر، فالذي في موضع نصب، قال: وقد يجوز أن يكون بهت بفتحهما لغة في بهت قال: وحكى قراءة "فبهت" بكسر الهاء كخرق ودهش قال: والأكثر بالضم في الهاء، قال أبو الحسن الأخفش يعني أن الضم يكون للمبالغة. ابن جني:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد تأول قوم في قراءة من قرأ "فبهت" بفتحهما أنه بمعنى سب وقذف، وأن نمروذا هو الذي سب إبراهيم حين انقطع ولم تكن له حيلة.
وقوله تعالى: والله لا يهدي القوم الظالمين إخبار لمحمد عليه السلام وأمته،
والمعنى لا يرشدهم في حججهم على ظلمهم، لأنه لا هدى في الظلم. فظاهره العموم، ومعناه الخصوص، كما ذكرنا لأن الله قد يهدي الظالمين بالتوبة والرجوع إلى الإيمان، ويحتمل أن يكون الخصوص فيمن يوافي ظالما.