قوله عز وجل:
أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام
عطفت "أو" في هذه الآية على المعنى، لأن مقصد التعجيب في قوله: ألم تر [ ص: 39 ] إلى الذي حاج يقتضي المعنى: أرأيت كالذي حاج؟ ثم جاء قوله: أو كالذي عطفا على ذلك المعنى.
وقرأ أبو سفيان بن حسين: "أو كالذي مر" بفتح الواو وهي واو عطف دخل عليها ألف التقرير. قال سليمان بن بريدة، وناجية بن كعب، وقتادة، وابن عباس، والربيع، وعكرمة، الذي مر على القرية هو والضحاك: عزير، وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن عمير، وبكر بن مضر: هو أرمياء. وقال ابن إسحاق: أرمياء هو الخضر، وحكاه عن النقاش وهذا كما تراه، إلا أن يكون اسما وافق اسما، لأن وهب بن منبه، الخضر معاصر لموسى، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما روى وحكى وهب بن منبه. عن مكي أنه رجل من بني إسرائيل غير مسمى، قال مجاهد ويقال: هو غلام النقاش: لوط عليه السلام، واختلف في القرية أيما هي؟ فحكى أن قوما قالوا: هي النقاش المؤتفكة. وقال إن القوم الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا مر عليهم رجل وهم عظام تلوح فوقف ينظر فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ فأماته الله مائة عام وترجم ابن زيد: على هذا القصص بأنه قول بأن القرية التي مر عليها هي التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم. الطبري
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقول لا يلائم الترجمة لأن الإشارة بهذه على مقتضى الترجمة هي إلى [ ص: 40 ] المكان، وعلى نفس القول هي إلى العظام والأجساد، وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية، إذ الآية إنما تضمنت قرية خاوية لا أنيس فيها، والإشارة بهذه إنما هي إلى القرية، وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان. وقال ابن زيد وهب بن منبه وقتادة، والضحاك، وعكرمة، القرية والربيع: بيت المقدس لما خربها بخت نصر البابلي، وفي الحديث الطويل حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث وقف أرمياء أو عزير على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس، لأن بخت نصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل، ورأى أرمياء البيوت قد سقطت حيطانها على سقفها، والعريش سقف البيت، وكل ما يهيأ ليظل أو يكن فهو عريش، ومنه عريش الدالية والثمار، ومنه قوله تعالى: ومما يعرشون .
قال يقول هي ساقطة على سقفها، أي سقطت السقف ثم سقطت الحيطان عليها. قال غير السدي: معناه خاوية من الناس على العروش، أي على البيوت، وسقفها عليها لكنها خوت من الناس، والبيوت قائمة. السدي:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وانظر استعمال العريش مع على في الحديث في قوله: "وكان المسجد يومئذ على عريش في أمر ليلة القدر".
[ ص: 41 ] و"خاوية" معناه: خالية، يقال: خوت الدار تخوى خواء، ويقال خويت، قال والأول أفصح. وقوله: الطبري: أنى يحيي هذه الله بعد موتها معناه: من أي طريق؟ وبأي سبب؟ وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان كما يقال الآن في المدن الخربة التي يبعد أن تعمر وتسكن، فكأن هذه تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته، وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه، والمثل الذي ضرب له في نفسه يحتمل أن يكون على أن سؤاله إنما كان عن إحياء الموتى من بني آدم، أي: أنى يحيي هذه الله موتاها.
وقد حكى عن بعضهم أنه قال: كان هذا القول شكا في قدرة الله على الإحياء فلذلك ضرب له المثل في نفسه. الطبري
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وليس يدخل شك في وإنما يتصور الشك من جاهل في الوجه الآخر والصواب أن لا يتأول في الآية شك. قدرة الله على إحياء قرية بجلب العمرة إليها،
وروي في قصص هذه الآية أن بني إسرائيل لما أحدثوا الأحداث بعث الله عليهم بخت نصر البابلي فقتلهم وجلاهم من بيت المقدس فخربه، فلما ذهب عنه جاء أرمياء فوقف على المدينة معتبرا فقال: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها"، قال: فأماته الله تعالى، وكان معه حمار قد ربطه بحبل جديد، وكان معه سلة فيها تين وهو طعامه، وقيل: تين وعنب، وكان معه ركوة من خمر، وقيل: من عصير، وقيل: قلة ماء هي شرابه، وبقي ميتا مائة عام فروي أنه بلي وتفرقت عظامه هو وحماره، وروي أنه بلي دون الحمار، وأن الحمار بقي حيا مربوطا لم يمت ولا أكل شيئا ولا بليت رمته، وروي أن الحمار بلي وتفرقت أوصاله دون عزير، وروي أن الله بعث إلى تلك القرية من عمرها ورد إليها جماعة بني إسرائيل حيث كملت على رأس مائة سنة، وحينئذ حيي [ ص: 42 ] عزير، وروي أن الله رد عليه عينيه وخلق له حياة يرى بها كيف تعمر القرية وتحيا من ثلاثين سنة تكملة المائة، لأنه بقي سبعين ميتا كله، وهذا ضعيف ترد عليه ألفاظ الآية.
وقوله تعالى: ثم بعثه ، معناه: أحياه، وجعل له الحركة والانتقال فسأله الله تعالى بواسطة الملك: كم لبثت ؟ على جهة التقرير، و"كم" في موضع نصب على الظرف فقال: لبثت يوما أو بعض يوم ، قال ابن جريج، وقتادة، والربيع:
أماته الله غدوة يوم، ثم بعث قبل الغروب فظن هذا اليوم واحدا فقال: لبثت يوما، ثم رأى بقية من الشمس فخشي أن يكون كاذبا فقال: "أو بعض يوم" فقيل له: "بل لبثت مائة عام" - ورأى من عمارة القرية وأشجارها ومبانيها ما دله على ذلك. قال العام مصدر كالعوم، سمي به هذا القدر من الزمان، لأنها عومة من الشمس في الفلك، والعوم كالسبح وقال تعالى: النقاش: وكل في فلك يسبحون .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: هذا معنى كلام والعام على هذا كالقول، والقال، وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد. وروي في قصص هذه الآية أن الله بعث لها ملكا من الملوك يعمرها ويجد في ذلك حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل: النقاش، أنى يحيي هذه الله بعد موتها .
وقرأ ابن كثير، وعاصم، "لبثت" في كل القرآن بإظهار الثاء، وذلك لتباين مخرج الثاء من مخرج التاء، وذلك أن الطاء والتاء والدال من حيز، والظاء والذال والثاء من حيز. وقرأ ونافع: أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، بالإدغام في كل القرآن، أجروهما مجرى المثلى من حيث اتفق الحرفان في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا، وفي أنهما مهموستان قال والكسائي، ويقوي ذلك وقوع هذين الحرفين في روي قصيدة واحدة . / 50
أبو علي: