فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير .
وقف في هذه الألفاظ على بقاء طعامه وشرابه على حاله لم يتغير، وعلى بقاء حماره حيا على مربطه هذا على أحد التأويلين، وعلى التأويل الثاني وقف على الحمار كيف يحيا وتجتمع عظامه، وقرأ "وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه" ، وقرأ ابن مسعود: وغيره: "وانظر إلى طعامك وشرابك لمائة سنة" . طلحة بن مصرف،
قال واختلفوا في إثبات الهاء في الفعل من قوله عز وجل: "لم يتسنه" و"اقتده" ، و"ما أغنى عني ماليه" و"سلطانيه"، "وما أدراك ما هيه" وإسقاطها في الوصل - لم يختلفوا في إثباتها في الوقف - فقرأ أبو علي: ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل، وكان حمزة يحذفهن في الوصل، وكان وابن عمر: يحذفها في "يتسنه" و"اقتده" ويثبتها في الباقي، ولم يختلفوا في "حسابيه" و"كتابيه" أنهما بالهاء في الوقف والوصل. الكسائي
و"يتسنه" يحتمل أن يكون من تسنى الشيء إذا تغير وفسد، ومنه "الحمأ" [ ص: 44 ] المسنون: المصبوب على سنن الأرض، فإذا كان من "تسنن" فهو: "لم يتسنن، قلبت النون ياء كما فعل في "تظننت" حتى قلت: "لم أتظن" فيجيء تسنن: تسنى، ثم تحذف الياء للجزم فيجيء المضارع: "لم يتسن". ومن قرأها بالهاء على هذا القول فهي هاء السكت، وعلى هذا يحسن حذفها في الوصل.
ويحتمل "يتسنه" أن يكون من السنة وهو الجدب والقحط وما أشبهه، يسمونه بذلك، وقد اشتق منه فعل فقيل: "استنوا"، وإذا كان هذا أو من السنة التي هي العام على قول من يجمعها سنوات فعلى هذا أيضا الهاء هاء السكت، والمعنى: لم تغير طعامك القحوط والجدوب ونحوه، أو لم تغيره السنون والأعوام.
وأما من قال في تصغير السنة: سنيهة، وفي الجمع: سنهات، وقال: أسنهت عند بني فلان - وهي لغة الحجاز ومنها قول الشاعر:
وليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح
فإن القراءة على هذه اللغة هي بإثبات الهاء ولا بد، وهي لام الفعل، وفيها ظهر الجزم بلم، وعلى هذا هي قراءة ابن كثير، ونافع، وقد ذكر. وقرأ وأبي عمرو، "لم يسنه" على الإدغام. طلحة بن مصرف:
وقال "لم يتسنه" معناه: لم يتغير، من قوله تعالى: النقاش: ماء غير آسن ، [ ص: 45 ] ورد النحاة على هذا القول لأنه لو كان من: أسن الماء لجاء "لم يتأسن".
وأما قوله تعالى: وانظر إلى حمارك فقال وغيره: المعنى: وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءا جزءا، ويروى أنه أحياه الله كذلك حتى صار عظاما ملتئمة، ثم كساه لحما حتى كمل حمارا، ثم جاء ملك فنفخ في أنفه الروح فقام الحمار ينهق، وروي عن وهب بن منبه، الضحاك، أيضا أنهما قالا: بل قيل له: وانظر إلى حمارك قائما في مربطه لم يصبه شيء مائة سنة. قالا: وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه، قالا: ووهب بن منبه
وأعمى الله العيون عن أرمياء وحماره هذه المدة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وكثر أهل القصص في صورة هذه النازلة تكثيرا اختصرته لعدم صحته.
وقوله تعالى: ولنجعلك آية للناس معناه: لهذا المقصد من أن تكون آية فعلنا بك هذا، وقال موضع كونه آية هو أنه جاء شابا على حاله يوم مات فوجد الأبناء والحفدة شيوخا، وقال الأعمش: جاء وهو ابن أربعين سنة كما كان يوم مات ووجد بنيه قد نيفوا على مائة سنة، وقال غير عكرمة: بل موضع كونه آية أنه جاء وقد هلك كل من يعرف، فكان آية لمن كان حيا من قومه إذ كانوا مؤمنين بحاله سماعا. الأعمش:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي إماتته هذه المدة ثم إحيائه أعظم آية، وأمره كله آية للناس غابر الدهر لا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض.
وأما العظام التي أمر بالنظر إليها فقد ذكرنا من قال: هي عظام نفسه، ومن قال: هي عظام الحمار - وقرأ ابن كثير، ونافع، "ننشرها" بفتح النون الأولى، وضم الشين، وبالراء، وقرأها كذلك وأبو عمرو: الحسن، وابن عباس، وأبو حيوة، فمن قرأ "ننشرها" [ ص: 46 ] بضم النون الأولى وبالراء فمعناه: نحييها يقال: أنشر الله الموتى، قال الله تعالى: ثم إذا شاء أنشره ، وقال الأعشى:
. . . . . . . . . . ...... يا عجبا للميت الناشر
وقراءة "ننشرها" بفتح النون الأولى وضم الشين يحتمل أن يكون لغة في الإحياء، يقال: نشرت الميت وأنشرته فيجيء: نشر الميت ونشرته، كما يقال: حسرت الدابة وحسرتها، وغاض الماء وغضته، ورجع زيد ورجعته، ويحتمل أن يراد بها ضد الطي كأن الموت طي للعظام والأعضاء، وكأن الإحياء وجمع بعضها إلى بعض نشر - وأما من قرأ: "ننشزها" بالزاي فمعناه: نرفعها، والنشز المرتفع من الأرض، ومنه قول الشاعر: عاصم
ترى الثعلب الحولي فيها كأنه ... إذا ما علا نشزا حصان مجلل
قال وغيره: فتقديره: ننشزها برفع بعضها إلى بعض للإحياء، ومنه نشوز المرأة، وقال أبو علي الأعشى:
. . . . . . . . . . قضاعية تأتي الكواهن ناشزا
يقال: نشز وأنشزته.
[ ص: 47 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويقلق عندي أن يكون معنى النشوز رفع العظام بعضها إلى بعض، وإنما النشوز الارتفاع قليلا قليلا، فكأنه وقف على نبات العظام الرفات وخروج ما يوجد منها عند الاختراع. وقال ننشزها معناه: ننبتها، وانظر استعمال النقاش: العرب تجده على ما ذكرت لك، من ذلك: نشز ناب البعير، والنشز من الأرض على التشبيه بذلك.
ونشزت المرأة كأنها فارقت الحال التي ينبغي أن تكون عليها.
وقوله تعالى: وإذا قيل انشزوا فانشزوا أي ارتفعوا شيئا فشيئا كنشوز الناب، فبذلك تكون التوسعة، فكأن النشوز ضرب من الارتفاع، ويبعد في الاستعمال أن يقال لمن ارتفع في حائط أو غرفة:
نشز. وقرأ "ننشزها" بفتح النون وضم الشين والزاي، وروي ذلك عن النخعي ابن عباس، وقرأ وقتادة، "كيف ننشيها" بالياء. أبي بن كعب:
والكسوة: ما وارى من الثياب، وشبه اللحم بها، وقد استعاره للإسلام فقال: النابغة
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
ويروى أنه كان يرى اللحم والعصب والعروق كيف تلتئم وتتواصل، وقال المعنى في قوله: الطبري:
"فلما تبين له" أي: لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل عيانه "قال: أعلم".
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا خطأ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ، وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف. [ ص: 48 ] وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، "أعلم" مقطوعة الألف مضمومة الميم، وقرأ وابن عامر: حمزة، "قال اعلم أن الله" موصولة الألف ساكنة الميم، وقرأها والكسائي: وقرأ أبو رجاء. عبد الله بن مسعود، "قيل أعلم" . والأعمش:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فأما هذه فبينة المعنى، أي قال الملك له - والأولى بينة المعنى، أي قال هو: أنا "أعلم أن الله على كل شيء قدير"، وهذا عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره كما زعم بل هو قول بعثه الاعتبار، كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى شيئا غريبا من قدرة الله: "لا إله إلا الله" ونحو هذا. وقال الطبري، معناه: أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته. أبو علي:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: يعني علم المعاينة. وأما قراءة حمزة، والكسائي فتحتمل وجهين أحدهما: قال الملك له: اعلم، والآخر أن ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل، فالمعنى: فلما تبين له قال لنفسه: اعلم، وأنشد - في مثل هذا - قول أبو علي الأعشى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل . . . . . . . . . . . . . . . .
وقوله:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا؟. . . . . . . . . . . . . . . . .
[ ص: 49 ] وأمثلة هذا كثيرة. وتأنس في هذا المعنى بقول الشاعر: أبو علي
تذكر من أنى ومن أين شربه ... يؤامر نفسيه كذي الهجمة الأبل