وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم
العامل في "إذ" فعل مضمر تقديره: واذكر. واختلف الناس لم صدرت هذه المقالة عن إبراهيم عليه السلام؟- فقال الجمهور: إن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكا في إحياء الله الموتى قط، وإنما طلب المعاينة، وترجم في تفسيره فقال: وقال آخرون: سأل ذلك ربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى، وأدخل تحت الترجمة عن الطبري أنه قال: "ما في القرآن آية أرجى عندي منها" وذكر عن ابن عباس أنه قال: "دخل قلب عطاء بن أبي رباح إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال: "رب أرني كيف تحي الموتى" وذكر حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبي هريرة إبراهيم "الحديث"، ثم رجح "نحن أحق بالشك من [ ص: 50 ] هذا القول الذي يجري مع ظاهر الحديث، وقال: "إن الطبري إبراهيم لما رأى الجيفة تأكل منها الحيتان ودواب البر ألقى الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع الله هذه من بطون هؤلاء".
وأما من قال بأن إبراهيم لم يكن شاكا فاختلفوا في سبب سؤاله - فقال إن قتادة: إبراهيم رأى دابة قد توزعتها السباع فعجب وسأل هذا السؤال، وقال نحوه، قال: وقد علم عليه السلام أن الله قادر على إحياء الموتى، وقال الضحاك: رأى الدابة تتقسمها السباع والحيتان لأنها كانت على حاشية البحر. وقال ابن زيد: بل سببها أنه لما فارق ابن إسحاق: النمروذ وقال له: أنا أحيي وأميت فكر في تلك الحقيقة والمجاز فسأل هذا السؤال. وقال السدي، بل سبب هذا السؤال أنه لما بشر بأن الله اتخذه خليلا أراد أن يدل بهذا السؤال ليجرب صحة الخلة، فإن الخليل يدل بما لا يدل به غيره، وقال وسعيد بن جبير: "ولكن ليطمئن قلبي" يريد بالخلة. سعيد بن جبير:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وما ترجم به عندي مردود، وما أدخل تحت الترجمة متأول، فأما قول الطبري "هي أرجى آية" فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى - وسؤال الإحياء في الدنيا وليست مظنة ذلك، ويجوز أن يقول: هي أرجى آية لقوله: "أولم تؤمن" أي أن الإيمان كاف لا يحتاج بعده إلى تنقيح وبحث، وأما قول ابن عباس: "دخل قلب عطاء بن أبي رباح: إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس" فمعناه من حب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ، وأما قول النبي عليه الصلاة والسلام: "ليس الخبر كالمعاينة" إبراهيم" فمعناه أنه لو كان شك لكنا نحن أحق به، ونحن لا نشك، "نحن أحق بالشك من فإبراهيم عليه السلام أحرى [ ص: 51 ] لا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم. والذي روي فيه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: إنما هو في الخواطر الجارية التي لا تثبت، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام. "ذلك محض الإيمان"
وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع، وقد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به، يدلك على ذلك قوله: "ربي الذي يحيي ويميت" فالشك يبعد على من ثبتت قدمه في الإيمان فقط، فكيف بمرتبة النبوءة والخلة، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا.
وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام بـ "كيف" إنما هو عن حال شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول - نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا - ومتى قلت: كيف ثوبك؟ وكيف زيد؟ فإنما السؤال عن حال من أحواله، وقد تكون "كيف" خبرا عن شيء شأنه أن يستفهم عنه بكيف نحو قولك: كيف شئت فكن، ونحو قول كيف كان بدء الوحي. البخاري:
و"كيف" في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبر عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصلح، فلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، مثال ذلك: أن يقول مدع: أنا أرفع هذا الجبل. فيقول له المكذب: أرني كيف ترفعه. فهذه طريقة مجاز في العبارة، ومعناها تسليم جدلي، كأنه يقول: افرض أنك ترفعه، أرني كيف؟ فلما كان في عبارة الخليل عليه السلام هذا الاشتراك المجازي خلص الله له ذلك، وحمله على أن [ ص: 52 ] يبين الحقيقة فقال له: أولم تؤمن قال بلى فكمل الأمر، وتخلص من كل شك، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة.
وقوله تعالى: أولم تؤمن معناه: إيمانا مطلقا، دخل فيه فصل إحياء الموتى، والواو واو حال دخلت عليها ألف التقرير.
و"ليطمئن"معناه: ليسكن عن فكره، والطمأنينة اعتدال وسكون على ذلك الاعتدال، فطمأنينة الأعضاء معروفة كما قال عليه السلام: الحديث، وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد. والفكر في صورة الإحياء غير محظورة، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها بل هي فكر فيها عبر، فأراد "ثم اركع حتى تطمئن راكعا" الخليل أن يعاين فتذهب فكره في صورة الإحياء إذ حركه إلى ذلك إما أمر الدابة المأكولة، وإما قول النمروذ: "أنا أحيي وأميت" وقال معنى ليطمئن: ليوقن، وحكي نحو ذلك عن الطبري: وحكي عنه: ليزداد يقينا، وقاله سعيد بن جبير، إبراهيم، وقال بعضهم: لأزداد إيمانا مع إيماني. وقتادة،
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر وإلا فاليقين لا يتبعض. وروي أن الأربعة التي أخذ إبراهيم هي الديك والطاووس والحمام والغراب، ذكر ذلك عن بعض أهل العلم الأول، وقاله ابن إسحاق مجاهد، وابن جريج، وقال [ ص: 53 ] وابن زيد، مكان الغراب الكركي. وروي في قصص هذه الآية أن ابن عباس: الخليل عليه السلام أخذ هذه الطير حسبما أمر، وذكاها ثم قطعها قطعا صغارا، وجمع ذلك مع الدم والريش، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل، ووقف هو من حيث يرى تلك الأجزاء وأمسك رؤوس الطير في يده، ثم قال: تعالين بإذن الله، فتطايرت تلك الأجزاء، وطار الدم إلى الدم، والريش إلى الريش حتى التأمت كما كانت أولا وبقيت بلا رؤوس، ثم كرر النداء، فجاءته سعيا حتى وضعت أجسادها في رؤوسها، وطارت بإذن الله تعالى.
وقرأ وحده: "فصرهن إليك" بكسر الصاد، وقرأ الباقون بضمها، ويقال: صرت الشيء أصوره بمعنى قطعته، ومنه قول حمزة رؤبة:
صرنا به الحكم وأعيا الحكما . . . . . . . . . . . . . . . .
ومنه قول الخنساء:
فلو يلاقي الذي لاقيته حضن ... لظلت الشم منه وهي تنصار
[ ص: 54 ] أي: تتقطع، ويقال أيضا: صرت الشيء أملته، ومنه قول الشاعر:
يصور عنوقها أحوى زنيم ... له صخب كما صخب الغريم
ومنه قول الأعرابي في صفة نساء، "هن إلى الصبا صور وعن الخنا نور" فهذا كله في ضم الصاد.
ويقال أيضا في هذين المعنيين "القطع والإمالة": صرت الشيء بكسر الصاد أصيره، ومنه قول الشاعر:
وفرع يصير الجيد وحف كأنه ... على الليت قنوان الكروم الدوالح
ففي اللفظة لغتان قرئ بهما.
وقد قال ابن عباس، في هذه الآية: "صرهن" معناه: قطعهن، وقال ومجاهد عكرمة، - في بعض ما روي عنه - إنها لفظة بالنبطية معناها: قطعهن، وقاله وابن عباس وقال الضحاك، هي بالسريانية، وقال أبو الأسود الدؤلي: صرهن: فصلهن، وقال قتادة: معناه: قطعهن، وهو الصور في كلام ابن إسحاق: العرب، وقال [ ص: 55 ] فصرهن معناه: اضممهن إليك، وقال عطاء بن أبي رباح: معناه: اجمعهن، وروي عن ابن زيد: معناه: أوثقهن، فقد تأول المفسرون اللفظة بمعنى التقطيع، وبمعنى الإمالة، فقوله: "إليك" على تأويل التقطيع متعلق بـ "خذ" وعلى تأويل الإمالة والضم متعلق بـ "صرهن"، وفي الكلام متروك يدل عليه الظاهر تقديره: فأملهن إليك وقطعهن، وقرأ قوم "فصرهن" بضم الصاد وشد الراء المفتوحة، كأنه يقول: فشدهن، ومنه صرة الدنانير. ابن عباس
وقرأ قوم: "فصرهن" بكسر الصاد وشد الراء المفتوحة، ومعناه: صيحهن من قولك: صر الباب والقلم إذا صوت، ذكره قال النقاش، وهي قراءة غريبة وذلك أن يفعل بكسر العين في المضاعف المتعدي قليل، وإنما بابه يفعل بضم العين كشد يشد ونحوه، لكن قد جاء منه: نم الحديث ينمه وينمه، وهر الحرب يهرها ويهرها ومنه قول ابن جني: الأعشى:
ليعتورنك القول حتى تهره .. . . . . . . . . . . . . . . . . .
إلى غير ذلك في حروف قليلة، قال وأما قراءة ابن جني: بضم الصاد فيحتمل في الراء الضم والفتح والكسر كمد وشد، والوجه ضم الراء من أجل ضمة الهاء من بعد. قال عكرمة المهدوي وغيره: وروي عن فتح الصاد وشد الراء المكسورة، وهذه بمعنى فاحبسهن، من قولهم: صرى يصري إذا حبس، ومنه الشاة المصراة. [ ص: 56 ] واختلف المتأولون في معنى قوله: عكرمة ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا فروى أبو حمزة عن أن المعنى: اجعل جزءا على كل ربع من أرباع الدنيا، كأن المعنى: اجعلها في أركان الأرض الأربعة، وفي هذا القول بعد. وقال ابن عباس قتادة، المعنى: واجعل على أربعة أجبل على كل جبل جزءا من ذلك المجموع المتقطع، فكما يبعث الله هذه الطير من هذه الجبال فكذلك يبعث الخلق يوم القيامة من أرباع الدنيا وجميع أقطارها. وقرأ الجمهور: "جزءا" بالهمز. وقرأ والربيع: "جزا" بشد الزاي في جميع القرآن، وهي لغة في الوقف، فأجرى أبو جعفر الوصل مجراه، وقال أبو جعفر ابن جريج، أمر أن يجعلها على الجبال التي كانت الطير والسباع حين تأكل الدابة تطير إليها وتسير نحوها وتتفرق فيها، قالا: وكانت سبعة أجبل، فكذلك جزأ ذلك المقطع من لحم الطير سبعة أجزاء، وقال والسدي: بل أمر أن يجعل على كل جبل يليه جزءا. قال مجاهد: معناه دون أن تحصر الجبال بعدد، بل هي التي كان يصل الطبري: إبراهيم إليها وقت تكليف الله إياه تفريق ذلك فيها، لأن الكل لفظ يدل على الإحاطة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وبعيد أن يكلف جميع جبال الدنيا، فلن يحيط بذلك بصره، فيجيء ما ذهب إليه جيدا متمكنا، والله أعلم أي ذلك كان. الطبري
ومعنى الآية أن إبراهيم عليه السلام كان بحيث يرى الأجزاء في مقامه، ويرى كيف التأمت وكذلك صحت له العبرة - وأمره بدعائهن وهن أموات إنما هو لتقرب الآية منه، وتكون بسبب من حاله ويرى أنه قصد بعرض ذلك عليه، ولذلك جعل الله تعالى سيرهن إليه سعيا إذ هي مشية المجد الراغب فيما يمشي إليه، فكان من المبالغة أن رأى إبراهيم جدها في قصده وإجابة دعوته، ولو جاءته مشيا لزالت هذه القرينة، ولو جاءت طيرانا.
[ ص: 57 ] لكان ذلك على عرف أمرها، فهذا أغرب منه، ثم وقف عليه السلام على العلم بالعزة التي في ضمنها القدرة، وعلى الحكمة التي بها إتقان كل شيء.