قوله عز وجل:
ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني [ ص: 557 ] إسرائيل ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين
روي عن رضى الله عنهما، وغيره في تفسير هذه الآية، لما نزلت: ابن عباس إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم الآية، ونزل مع ذلك ذكر عيسى عليه السلام وحاله وكيف خلق من غير فحل، قالت فرقة: ما يريد محمد -عليه الصلاة والسلام- من ذكر عيسى إلا أن نعبده نحن كما عبدت النصارى عيسى عليه السلام، فهذا كان صدودهم من ضربه مثلا، وقرأ ، نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وأبو جعفر ، والأعرج ، والنخعي ، وأبو رجاء : "يصدون" بضم الصاد، بمعنى: يعرضون، وقرأ الباقون، وابن وثاب ، وابن عباس ، وابن جبير ، والحسن : "يصدون" بكسر الصاد، بمعنى يضحكون، قاله وعكرمة وغيره، وأنكر ابن عباس رضى الله عنهما ضم الصاد، ورويت عن ابن عباس رضى الله عنه، وقال علي بن أبي طالب : هما لغتان بمعنى واحد، مثل "يعرشون، و"يعرشون" . الكسائي
وقوله تعالى: وقالوا أآلهتنا خير أم هو ابتداء معنى ثان، وذلك أنه إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم جاء عبد الله بن الزبعري ونظراؤه، فقالوا: نحن نخصم محمدا، أآلهتنا خير أم عيسى؟ وعلموا أن الجواب أن يقال عيسى، قالوا: وهذه آية الحصب لنا أو لكل الأمم من الكفار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل لكل من تقدم أو تأخر من الكفار"، فقالوا: نحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى، إذ هو خير منها، وإذ قد عبد فهو من الحصب إذن، فقال الله تعالى: ما ضربوه لك إلا جدلا أي: ما مثلوا هذا التمثيل إلا جدلا منهم ومغالطة، ونسوا أن لما نزلت: عيسى صلى الله عليه وسلم لم يعبد برضى منه ولا عن إرادة، ولا له في ذلك ذنب.
وقرأ ، ابن كثير : "أآلهتنا" بهمزة استفهام وهمزة بعدها بين بين وألف [ ص: 558 ] بعدها، وقرأ وأبو عمرو ، عاصم ، وابن عامر ، وحمزة : بهمزتين محققتين بعد الثانية ألف، وقرأ والكسائي عن ورش بغير استفهام: "آلهتنا" على مثال الخبر، وقرأ نافع عن قالون : "آلهتنا" بهمزة واحدة بعدها مدة، وفي مصحف نافع : "خير أم هذا"، فالإشارة إلى أبي بن كعب محمد صلى الله عليه وسلم، وخرجت هذه القراءة على التأويل الأول الذي فسرناه، وكذلك قالت فرقة ممن قرأ: "ألهتنا خير أم هو": إن الإرادة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو قول . وقال قتادة ، ابن زيد : المراد بـ "هو": والسدي عيسى عليه السلام ، وهذا هو المترجح.
و"الجدال" عند العرب: المحاورة بمغالطة أو تحقيق أو ما اتفق من القول، إنما المقصد به أن يغلب صاحبه في الظاهر لا أن يتطلب الحق في نفسه، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أبو أمامة ، ثم قرأ: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل" ما ضربوه لك إلا جدلا قال : أبو أمامة ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم أهل خصام ولدد. ورأى النبي صلى الله عليه وسلم قوما يتنازعون في القرآن فغضب حتى كأنما صب في وجهه الخل، وقال: "لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فما ضل قوم إلا أوتوا الجدل"،
وأخبر تعالى عن عيسى عليه السلام أنه عبد أنعم الله عليه بالنبوة والمنزلة العالية، وجعله مثلا لبني إسرائيل، [وقوله: "ولو نشاء" الآية، أي: لا تستغربوا أن يخلق عيسى من غير فحل، فإن القدرة تقضي ذلك وأكثر منه.
وقوله تعالى: لجعلنا منكم معناه: لجعلنا بدلا منكم، أي: لو شاء الله تعالى لجعل بدلا من بني آدم ملائكة يسكنون الأرض ويخلفون بني آدم فيها، وقال ابن [ ص: 559 ] عباس : يخلف بعضهم بعضا. ومجاهد
والضمير في قوله تعالى: وإنه لعلم للساعة قال ، ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، والضحاك : الإشارة به إلى وابن زيد عيسى عليه السلام، وقالت فرقة: إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الحسن أيضا، : إلى القرآن، وقرأ جمهور الناس: "لعلم" بكسر العين وسكون اللام، وقرأ وقتادة ، ابن عباس ، وأبو هريرة ، وقتادة وأبو مالك الغفاري، ، ومجاهد وأبو نضرة المنذر بن كعب ، : "وإنه العلم" بفتح العين واللام، وقرأ ومالك بن دينار رضى الله عنهما: "وإنه للعلم" بلامين، وقرأ عكرمة مولى ابن عباس : "وإنه لذكر للساعة"، فمن قال إن الإشارة إلى أبي بن كعب لعيسى عليه السلام حسن مع تأويله "علم" و"علم"، أي: هو إشعار بالساعة وشرط من أشراطها، يعني خروجه في آخر الزمان، وكذلك من قال: الإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم إذ هو آخر الأنبياء عليهم السلام ، فقد تميزت الساعة به نوعا وقدرا من التمييز، وبقي التحديد التام الذي انفرد الله تعالى بعلمه، ومن قال: الإشارة إلى القرآن، حسن قوله في قراءة من قرأ: "لعلم" بكسر العين وسكون اللام، أي: يعلمكم بها وبأهوالها وصفاتها، وفي قراءة من قرأ: "لذكر".
وقوله تعالى: فلا تمترن أي: قل لهم يا محمد: لا تشكن فيها، وقوله تعالى: هذا صراط مستقيم إشارة إلى الشرع، ثم أمره بتحذير العباد من الشيطان وإغوائه، ونبههم على عداوته.