يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن فبأي آلاء ربكما تكذبان سنفرغ لكم أيه الثقلان فبأي آلاء ربكما تكذبان يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان
قوله تعالى: "يسأله يحتمل أن يكون في موضع الحال من "الوجه" والعامل فيه "يبقى"،أي: هو دائم في هذه الحال، ويحتمل أن يكون فعلا مستأنفا إخبارا مجردا، والمعنى: أن كل مخلوق من الأشياء فهو في قوامه وتمسكه ورزقه إن كان مما يرزق بحال حاجة إلى الله تعالى، فمن كان يسأل بنطق فالأمر فيه بين، ومن كان من غير ذلك فحاله تقتضي السؤال فأسند فعل السؤال إليه.
وقوله تعالى: كل يوم هو في شأن أي: يظهر شأن من قدرته التي سبقت في الأزل في ميقاته من الزمن، من إحياء وإماتة ورفع وخفض وغير ذلك من الأمور التي لا يعلم نهايتها إلا هو تعالى وجل، و"الشأن" اسم جنس للأمور، قال : معنى الآية سوق المقادير إلى المواقيت، وقد ورد في بعض الأخبار أن الله تعالى له كل يوم في اللوح المحفوظ ثلاثمائة وستون نظرة، يعز فيها ويذل، ويحيي ويميت، ويغني ويعدم، إلى غير ذلك من الأشياء، لا إله إلا هو. وفي الحديث الحسين بن الفضل وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقيل: ما هذا الشأن يا رسول الله؟ قال: "يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع [ ص: 171 ] ويضع"، أن سبب هذه الآية قول اليهود: إن الله استراح يوم السبت فلا ينفذ فيه شيئا تعالى عن قولهم. النقاش
وقوله تعالى: سنفرغ لكم أيه الثقلان عبارة عن إتيان الوقت الذي قدر فيه وقضى أن ينظر في أمر عباده، وذلك يوم القيامة، وليس المعنى أن ثم شغلا يفرغ منه، وإنما هي إشارة وعيد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزب العقبة: أما والله لأفرغن لك ما حييت". و"التفرغ" من كل آدمي حقيقة، وفي قوله تعالى: "سنفرغ" بفتح النون وضم الراء وقرأ ، الأعرج ذلك بفتح الراء والنون، ورويت عن وقتادة ، ويقال: فرغ بفتح الراء، وفرغ بكسرها، ويصح منهما جميعا أن يقال: يفرغ بفتح الراء، وقرأ عاصم بكسر النون وفتح الراء، قال عيسى : هي لغة سفلى أبو حاتم مضر، وقرأ أبو عمرو وحمزه، بالياء المفتوحة، وقرأ والكسائي ، حمزة بضم الياء، وقرأ والكسائي بفتحها وضم الراء، وقرأ أبو عمرو -بخلاف- الأعمش وأبو حيوة: " سيفرغ" بضم الياء وفتح الراء وبناء الفعل للمفعول، وقرأ أيضا: "سنفرغ إليكم". عيسى بن عمر
و"الثقلان": الجن والإنس، يقال لكل ما يعظم أمره: ثقيل، ومنه "وأخرجت [ ص: 172 ] الأرض أثقالها"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويقال لبيض النعام: ثقل، قال "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي"، لبيد :
فتذكرا ثقلا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال جعفر بن محمد الصادق : سمي الجن والأنس ثقلين لأنهما ثقلا بالذنوب، وهذا بارع ينظر إلى خلقهما من طين ونار، وقرأ : "أيه الثقلان" بضم الهاء. ابن عامر
واختلف الناس في معنى قوله تعالى: إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض - فقال : قال قوم: في الكلام محذوف تقديره: يقال لكم: يا معشر الجن والإنس، قالوا: وهذه حكاية عن حال يوم القيامة، "يوم التناد" على قراءة من قرأ بشد الدال، قال الطبري : وذلك أنه يفر الناس في أقطار الأرض، والجن كذلك، لما يرون من هول يوم القيامة، فيجدون سبعة صفوف من الملائكة قد أحاطت بالأرض فيرجعون من حيث جاؤوا، فحينئذ يقال لهم: الضحاك يا معشر الجن والإنس . وقال بعض [ ص: 173 ] المفسرين: بل هي مخاطبة في الدنيا، والمعنى: إن استطعتم الفرار من الموت بأن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض، وقال رضي الله عنهما: إن استطعتم بأذهانكم وفكركم أن تنفذوا فتعلموا علم أقطار السماوات والأرض، و"الأقطار": الجهات، وقوله تعالى: "فانفذوا" صيغتة الأمر ومعناه التعجيز. و"السلطان" هو القوة على غرض الإنسان، ولا يستعمل إلا في الأعظم من الأمر والحجج أبدا من القوي في الأمور، فلذلك يعبر كثير من المفسرين عن السلطان بأنه الحجة، وقال ابن عباس : السلطان هنا الملك، وليس لهم ملك. قتادة
و"الشواظ": لهب النار، قاله رضي الله عنهما وغيره، وقال ابن عباس : لا يكون الشواظ إلا من النار وشيء معها. أبو عمرو بن العلاء
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وكذلك النار كلها لا تحس إلا وشيء معها.
وقال : الشواظ هو اللهب الأخضر المتقطع، ويؤيد هذا القول قول مجاهد يهجو حسان بن ثابت أمية بن أبي الصلت :
هجوتك فاختضعت حليف ذل بقافية تأجج كالشواظ
[ ص: 174 ] وقال : هو الدخان الذي يخرج من اللهب وليس بدخان الحطب وقرأ الجمهور: "شواظ" بضم الشين، وقرأ الضحاك وحده، ابن كثر وشبل، : "شواظ" بكسر الشين، وهما لغتان، وقال وعيسى ، ابن عباس : النحاس : الدخان، ومنه قول وابن جبير الأعشى:
تضيء كضوء سراج السليـ ـط لم يجعل الله فيه نحاسا
والسليط: دهن الشيرج، وقرأ جمهور القراء: "ونحاس" بالرفع عطفا على "شواظ"، فمن قال إن النحاس هو المعروف، وهو قول ، مجاهد أيضا- قال: ويرسل عليهما نحاس، أي: يذاب ويرسل عليهما، ومن قال هو الدخان قال: يعذبون بدخان يرسل عليهما. وقرأ وابن عباس ابن كثر، ، وأبو عمرو ، والنخعي وابن أبي إسحاق : "ونحاس" بالخفض عطفا على "نار"، وهذا مستقيم على ما حكيناه عن ، ومن رأى أن الشواظ يختص بالنار قدر هنا: وشيء من نحاس، وحكى أبي عمرو بن العلاء عن أبو حاتم أنه قرأ: "ونحاس" بكسر النون والجر، وعن مجاهد أنه قرأ: "ونحس" بفتح النون وضم الحاء والسين المشددة على أنه فعل، كأنه يقول: ونقتل بالعذاب، وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة أبي جندب أنه قرأ: "ونحس" كما تقول: يوم نحس، وحكى مثل قراءة أبو عمرو عن مجاهد ، وذلك لغة في نحاس، وقيل: هو جمع نحس، ومعنى الآية مستمر في تعجيز الجن والإنس، أي: أنتما بحال من يرسل عليه هذا فلا ينتصران. طلحة بن مصرف