يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون
سبب هذه الآية قريش وثقيف ربا، فكان لهؤلاء على هؤلاء فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال في خطبته في اليوم الثاني من الفتح: "ألا كل ربا في الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا" [ ص: 102 ] العباس بن عبد المطلب" فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به، وهذه أنه كان الربا بين الناس كثيرا في ذلك الوقت، وكان بين ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من سنن العدل للإمام أن يفيض العدل على نفسه وخاصته، فيستفيض حينئذ في الناس، المدينة، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد، فلما استنزل أهل الطائف بعد ذلك إلى الإسلام اشترطوا شروطا منها ما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها ما لم يعطه، وكان في شروطهم أن كل ربا لهم على الناس فإنهم يأخذونه، وكل ربا عليهم فهو موضوع، فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرر لهم هذه ثم ردها الله بهذه الآية كما رد صلحه لكفار قريش في رد النساء إليهم عام الحديبية.
وذكر رواية النقاش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكتب في أسفل الكتاب لثقيف: "لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم"، فلما جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء، وكانت الديون لبني غيرة. وهم بنو عمرو بن عمير من ثقيف، وكانت لهم على بني المغيرة المخزوميين، فقال بنو المغيرة. لا نعطي شيئا. فإن الربا قد وضع، ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد بمكة، فكتب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، وكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب، فعلمت بها ثقيف فكفت. هذا سبب الآية على اختصار مجموع مما روى ابن إسحاق، وابن جريج، وغيرهم، فمعنى الآية: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بترككم ما بقي لكم من ربا وصفحكم عنه. والسدي،
وقوله: إن كنتم مؤمنين شرط محض في ثقيف على بابه، لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام، وإذا قدرنا الآية فيمن تقرر إيمانه فهو شرط مجازي على جهة المبالغة، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه: إن كنت رجلا فافعل كذا.
وحكى عن النقاش أنه قال: "إن" في هذه الآية بمعنى "إذ" [ ص: 103 ] . مقاتل بن سليمان
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا مردود لا يعرف في اللغة، وقال يحتمل أنه يريد: يا أيها الذين آمنوا بمن قبل ابن فورك محمد من الأنبياء ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بمحمد إذ لا ينفع الأول إلا بهذا. وهذا مردود بما روي في سبب الآية.
ثم توعدهم تعالى - إن لم يذروا الربا - بحرب من الله ورسوله والحرب داعية القتل، وروى أنه يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. وقال ابن عباس أيضا: ابن عباس وقال من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه. أوعد الله أهل الربا بالقتل فجعلهم بهرجا أينما ثقفوا، ثم ردهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم وقال لهم: "لا تظلمون" في أخذ الربا "ولا تظلمون" في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم فتذهب أموالكم. ويحتمل أن يكون "لا تظلمون" في مطل، لأن قتادة: كما قال صلى الله عليه وسلم، فالمعنى أن يكون القضاء مع وضع الربا، وهكذا سنة الصلح، وهذا أشبه شيء بالصلح، ألا ترى "مطل الغني ظلم" في دين كعب بن مالك ابن أبي حدرد بوضع الشطر فقال نعم يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، للآخر: قم فاقضه، كعب: فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات. وقرأ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار على "ما بقي" بكسر القاف وإسكان الياء وهذا كما قال الحسن: جرير:
هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ... ماضي العزيمة ما في حكمه جنف
ووجهها أنه شبه الياء بالألف، فكما لا تصل الحركة إلى الألف فكذلك لم تصل هنا إلى الياء، وفي هذا نظر. [ ص: 104 ] وقرأ أبو السمال: "من الربو" بكسر الراء المشددة وضم الباء وسكون الواو، وقال أبو الفتح: شذ هذا الحرف في أمرين أحدهما: الخروج من الكسر إلى الضم بناء لازما، والآخر: وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم، وهذا شيء لم يأت إلا في الفعل، نحو: يغزو ويدعو - أما "ذو" الطائية بمعنى الذي فشاذة جدا، ومنهم من يغير واوها إذا فارق الرفع فيقول: رأيت ذا قام. ووجه القراءة أنه فخم الألف فانتحى بها الواو التي الألف بدل منها، على حد قولهم: الصلاة والزكاة، وهي بالجملة قراءة شاذة.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وابن عامر، "فأذنوا" مقصورة مفتوحة الذال. وقرأ والكسائي في رواية عاصم "فآذنوا" ممدودة مكسورة الذال، قال أبي بكر: آذنت: أعلمت، وأذنت: ناديت وصوت بالإعلام، قال: وبعض يجري آذنت مجرى أذنت. قال سيبويه: من قال: فأذنوا فقصر معناه: فاعلموا الحرب من الله، قال أبو علي: وغيره من المفسرين: معناه: فاستيقنوا الحرب من الله تعالى. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا عندي من الإذن، وإذا أذن المرء في شيء فقد قرره وبنى مع نفسه عليه فكأنه قال لهم: فقرروا الحرب بينكم وبين الله ورسوله، ويلزمهم - من لفظ الآية - أنهم مستدعو الحرب والباغون لها إذ هم الآذنون بها وفيها، ويندرج في هذا المعنى الذي ذكرته علمهم بأنهم حرب، وتيقنهم لذلك. قال من قرأ فآذنوا، فمد فتقديره: فأعلموا من لم ينته عن ذلك بحرب، والمفعول محذوف، وقد ثبت هذا المفعول في قوله تعالى: أبو علي: فقل آذنتكم على سواء ، وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم لا محالة، قال: ففي إعلامهم علمهم، وليس في علمهم إعلامهم غيرهم، فقراءة المد أرجح لأنها أبلغ وآكد، قال قراءة القصر أرجح لأنها تختص بهم، وإنما أمروا على قراءة المد بإعلام غيرهم. الطبري:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والقراءتان عندي سواء لأن المخاطب في الآية محصور بأنه كل من لم يذر ما بقي [ ص: 105 ] من الربا، فإن قيل لهم: "فأذنوا" فقد عمهم الأمر، وإن قيل لهم: "فآذنوا" بالمد فالمعنى أنفسكم وبعضكم بعضا، وكأن هذه القراءة تقتضي فسحا لهم في الارتياء والتثبت، أي فأعلموا نفوسكم هذا، ثم انظروا في الأرجح لكم: ترك الربا أو الحرب.
وقرأ جميع القراء: "لا تظلمون" بفتح التاء، و "لا تظلمون" بضمها، وقد مضى تفسيره،
وروى عن المفضل لا "تظلمون" بضم التاء في الأولى وفتحها في الثانية. قال عاصم: وتترجح قراءة الجماعة بأنها تناسب قوله: "فإن تبتم" في إسناد الفعلين إلى الفاعل، فيجيء "تظلمون" بفتح التاء أشكل بما قبله. أبو علي: