قوله عز وجل:
والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم
"الذين تبوؤا" هم الأنصار، والضمير في "قبلهم" للمهاجرين، و "الدار" هي المدينة، والمعنى: تبوءوا الدار مع الإيمان معا، وبهذا الاقتران يصح معنى قوله تعالى: "من قبلهم" فتأمله. والإيمان لا يتبوأ لأنه ليس مكانا، ولكن هذا من بليغ الكلام، ويتخرج على وجوه كلها جميل حسن.
وأثنى الله تعالى في هذه الآية على الأنصار بأنهم يحبون المهاجرين رضي الله عن جميعهم وبأنهم يؤثرون على أنفسهم، وبأنهم قد وقوا شح أنفسهم; لأن مقتضى قوله تعالى: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون أن هؤلاء الممدوحين قد وقوا الشح.
و"الحاجة": الحسد في هذا الموضع، قاله وتعم بعد جميع الوجوه التي هي بخلاف ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في إعطاء الحسن، المهاجرين أموال بني النضير والقرى. و"أوتوا" [ ص: 267 ] معناه: أعطوا، والضمير المرفوع بأن لم يسم فاعله هو للمهاجرين.
وقوله تعالى: ويؤثرون على أنفسهم الآية... صفة للأنصار، وقد روي -من غير ما طريق- أنها نزلت بسبب رجل من الأنصار، قال أبو المتوكل : هو ، وقال ثابت بن قيس رضي الله عنه في كتاب أبو هريرة : كنية هذا الرجل مكي ، وخلط أبو طلحة المهدوي في ذكر هذا الرجل- ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ضيافة مهاجري، فانتدب الأنصاري ولم يكن له مال فذهب بالضيف وقال لامرأته هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، فقال لها: نومي صبيانك، وأطفئي السراج، وقدمي ما عندك للضيف ونوهمه أنا نأكل، ففعلا ذلك، فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عجب الله من فعلك البارحة"، ونزلت الآية في ذلك.
والإيثار على النفس أكرم خلق، وقال حذيفة العدوي: طلبت يوم اليرموك ابن عم لي في الجرحى ومعي شيء من ماء، فوجدته، فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم، فإذا رجل يصيح آه، فأشار ابن عمي أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أتشرب؟ فإذا آخر يقول: آه، فأشار هشام أن انطلق إليه، فجئته فإذا به قد فاضت نفسه، فرجعت إلى هشام ، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات، فعجبت من إيثارهم رحمهم الله تعالى، وقال أبو زيد البسطامي: قدم علينا شاب من بلخ فقال لي: ما حد الزهد عندكم؟ فقلت: إذا فقدنا صبرنا، وإذا وجدنا شكرنا، قال: هذه حال الكلاب عندنا ببلخ، فقلت فما الزهد عندكم؟ قال: إذا فقدنا شكرنا، وإذا وجدنا آثرنا.
وروي أن سبب هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى في المهاجرين قال للأنصار: "إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة، فنزلت هذه الآية.
[ ص: 268 ] و"الخصاصة": الفاقة والحاجة، وهو مأخوذ من خصائص البيت، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتوح، فكأن حال الفقير هي كذلك يتخللها النقص والاحتياج، و "شح النفس" هو كثرة طمعها وضبطها على المال والرغبة فيه وامتداد الأمل، هذا جماع شح النفس، وهو داعية كل خلق سوء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدى الزكاة المفروضة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة، فقد برئ من الشح" .
واختلف الناس بعد هذا الذي قلنا، فذهب الجمهور والعارفون بالكلام إلى هذا، وعلى هذا التأويل كان رضي الله عنه يطوف وهو يقول: اللهم قني شح نفسي، لا يزيد على ذلك، فقيل له في ذلك فقال: إذا وفيته لم أفعل سوءا. عبد الرحمن بن عوف
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
شح النفس فقر لا يذهبه غنى المال بل يزيده وينصب به.
وقال ابن زيد وجماعة: من لم يأخذ شيئا نهاه الله تعالى عنه ولم يمنع الزكاة المفروضة فقد برئ من شح النفس، وقال وابن جبير رضي الله عنه: شح النفس : هو أكل مال الغير بالباطل، وأما منع الإنسان ماله فهو بخل، وهو قبيح، ولكنه ليس بالشح، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنهما" "شح" بكسر الشين. و"يوق" وزنه "يفعل" من وقى يقي، مثل وزن يزن، وقرأ عبد الله بن عمر أبو حيوة: "يوق" بفتح الواو وشد القاف، و"المفلحون": الفائزون ببغيتهم.
واختلف الناس في قوله تعالى: والذين جاءوا من بعدهم فقال : أراد الفرقة الثالثة من الصحابة وهي التي آمنت أو كبر في آخر مدة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال جمهور العلماء: أراد من يجيء من التابعين وغيرهم إلى يوم القيامة، فوصف الله تبارك [ ص: 269 ] وتعالى القول الذي ينبغي أن يلتزمه كل من لم يكن من الصدر الأول. وإعراب "الذين" رفع عطفا على "هم" أو على "والذين" أو رفع بالابتداء. وقوله تعالى: "يقولون" حال فيها الفائدة، والمراد: والذين جاءوا قائلين كذا، أو يكون "يقولون" صفة. الفراء
ولهذه الآية قال وغيره: إنه من كان له في أحد من الصحابة قول سوء أو بغض فلا حظ له في الغنيمة أدبا له، وجاء بعض العارفين إلى مالك رضي الله عنهما فسبوا علي بن الحسين أبا بكر وعمر رضي الله عنهم، فقال لهم: أمن وعثمان المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا: لا، قال أفمن الذين تبوؤا الدار والإيمان أنتم؟ قالوا: لا، قال: فقد تبرأتم من هذين الفريقين، وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله تعالى فيهم: والذين جاءوا من بعدهم الآية... فقوموا، فعل الله تعالى بكم وفعل، وقال الحسن: فالجماعة أن لا تسبوا الصحابة، ولا تماروا في دين الله تعالى، ولا تكفروا أحدا من أهل التوحيد بذنب . أدركت ثلاثمائة من الصحابة منهم سبعون بدريا كلهم يحدثني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"،
و"الغل": الحقد والاعتقاد الرديء، وقرأ : "في قلوبنا غمرا"، والغمر: الحقد: وقد تقدم الاختلاف في قراءة "رؤف". الأعمش
[ ص: 270 ]