إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم
لما علم الله تعالى مشقة الكتاب عليهم نص على ترك ذلك، ورفع الجناح فيه في كل مبايعة بنقد، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل كالمطعوم ونحوه لا في كثير كالأملاك ونحوها، ولذا قال السدي، هذا فيما كان يدا بيد تأخذ وتعطي، و"أن" في موضع نصب على الاستثناء المنقطع. والضحاك:
وقوله تعالى: تديرونها بينكم يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض- ولما كانت الرباع والأرض وكثير من الحيوان لا تقوى البينونة به ولا يعاب عليه - حسن الكتب فيها، ولحقت في ذلك بمبايعة الدين. وقرأ وحده: "تجارة" نصبا، وقرأ الباقون: "تجارة" رفعا، قال عاصم وأشك في أبو علي: - وإذا أتت "كان" بمعنى حدث ووقع - غنيت عن خبر، وإذا خلع منها معنى الحدوث لزمها الخبر المنصوب، فحجة من رفع "تجارة" أن "كان" بمعنى حدث ووقع، وأما من نصب فعلى خبر "كان" [ ص: 122 ] والاسم مقدر، تقديره عند ابن عامر إما: "المبايعة" التي دلت الآيات المتقدمة عليها، وإما: [إلا أن تكون "التجارة تجارة"] ويكون ذلك مثل قول الشاعر: أبي علي،
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا
أي إذا كان اليوم يوما، هكذا أنشد البيت، وكذلك أبو علي وأنشد أبو العباس المبرد، الطبري:
ولله قومي أي قوم لحرة ... إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا
وأنشده يوم بالرفع. سيبويه:
إذا كان يوم ذو كواكب . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقوله تعالى: وأشهدوا إذا تبايعتم ، قال معناه: "وأشهدوا على صغير ذلك وكبيره"، واختلف الناس - الطبري: فقال هل ذلك على الوجوب أو على الندب؟ الحسن، وغيرهما: ذلك على الندب. وقال والشعبي، ابن عمرو، ذلك على الوجوب، وكان والضحاك: يفعله في قليل الأشياء وكثيرها. وقاله ابن عمر ورجح ذلك عطاء، والوجوب في ذلك قلق، أما في الدقائق فصعب شاق، وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الاستيلاف بترك الإشهاد، وقد يكون عادة في بعض البلاد، وقد يستحي من العالم والرجل الكبير الموقر فلا يشهد عليه، فيدخل ذلك كله في الائتمان، ويبقى الأمر بالإشهاد ندبا لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا، وحكى الطبري: المهدوي عن قوم أنهم قالوا: "وأشهدوا إذا تبايعتم" منسوخ بقوله: "فإن أمن" الآية. وذكره عن مكي أبي سعيد الخدري.
واختلف الناس في معنى قوله تعالى: ولا يضار كاتب ولا شهيد فقال [ ص: 123 ] الحسن، وقتادة، وطاوس، وغيرهم: المعنى: ولا يضار الكاتب بأن يكتب ما لم يمل عليه، ولا يضار الشاهد بأن يزيد في الشهادة أو ينقص منها، وقال مثله وابن زيد، ابن عباس، ومجاهد، إلا أنهم قالوا: لا يضار الكاتب والشاهد بأن يمتنعا، وعطاء،
ولفظ الضرر يعم هذا، والقول الأول، والأصل في "يضار" على هذين القولين "يضارر" بكسر الراء، ثم وقع الإدغام وفتحت الراء في الجزم لخفة الفتحة.
وقال أيضا ابن عباس ومجاهد، والضحاك، والسدي، وغيرهم: معنى الآية: وطاوس، فيقول: اكتب لي أو اشهد لي في وقت عذر أو شغل للكاتب أو الشاهد، فإذا اعتذرا بعذرهما حرج وآذاهما، وقال: خالفت أمر الله ونحو هذا من القول، ولفظ المضارة إذ هو من اثنين يقتضي هذه المعاني كلها، والكاتب والشهيد على القول الأول رفع بفعلهما، وفي القول الثاني رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله، وأصل "يضار" على القول الثاني يضارر بفتح الراء، وروي عن ولا يضار كاتب ولا شهيد بأن يؤذيه طالب الكتبة أو الشهادة رضي الله عنه، وعن عمر بن الخطاب ابن مسعود، أنهم كانوا يقرؤون: "ولا يضارر" بالفك وفتح الراء الأولى، وهذا على معنى أن يبدأهما بالضرر طالب الكتبة والشهادة، وذكر ذلك ومجاهد عنهم في ترجمة هذا القول، وفسر القراءة بهذا المعنى، فدل ذلك على أن الراء الأولى مفتوحة كما ذكرنا. الطبري
وحكى عن أبو عمرو الداني رضي الله عنه، عمر بن الخطاب وابن عباس، وابن أبي إسحاق، أن الراء الأولى مكسورة، وحكى عنهم أيضا فتحها. وفك الفعل هي لغة أهل ومجاهد الحجاز، والإدغام لغة تميم وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، "ولا يضار" بجزم الراء قال وعمرو بن عبيد: أبو الفتح: تسكين الراء مع التشديد فيه نظر، ولكن طريقه أجري الوصل مجرى الوقف، وقرأ "ولا يضارر" بكسر الراء الأولى "كاتبا ولا شهيدا بالنصب، أي لا يبدأهما صاحب الحق بضرر، ووجوه المضارة لا تنحصر. عكرمة:
وروى مقسم عن أنه قرأ "ولا يضار" بالإدغام وكسر الراء للالتقاء، وقرأ عكرمة ابن [ ص: 124 ] محيصن: "ولا يضار" برفع الراء مشددة، قال ولا أدري ما هذه القراءة ابن مجاهد.
قال أبو الفتح: هذا الذي أنكره معروف، وذلك على أن تجعل "لا" نفيا أي: ليس ينبغي أن يضار، كما قال الشاعر: ابن مجاهد
على الحكم المأتي يوما إذا قضى ... قضيته أن لا يجور ويقصد
فرفع "ويقصد" على إرادة وينبغي أن يقصد، فكذلك يرتفع "ولا يضار" على معنى: وينبغي أن لا يضار، قال: وإن شئت كان لفظ خبر على معنى النهي ، وهذا قريب من النظر الأول.
وقوله تعالى: وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم من جعل المضارة المنهي عنها زيادة الكاتب والشاهد فيما أملي عليهما أو نقصهما منه فالفسوق على عرفه في الشرع، وهو مواقعة الكبائر، لأن هذا من الكذب المؤذي في الأموال والأبشار، وفيه إبطال الحق - ومن جعل المضارة المنهي عنها أذى الكاتب والشاهد بأن يقال لهما: أجيبا ولا تخالفا أمر الله أو جعلها امتناعهما إذا دعيا، فالفسوق على أصله في اللغة الذي هو الخروج من شيء كما يقال: فسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، وفسقت الرطبة، فكأن فاعل هذا فسق عن الصواب والحق في هذه النازلة، ومن حيث خالف أمر الله في هذه الآية فيقرب الأمر من الفسوق العرفي في الشرع.
وقوله "بكم" تقديره: فسوق حال بكم، وباقي الآية موعظة وتعديد نعمة، والله المستعان لا رب غيره، وقيل: معنى الآية: الوعد بأن من اتقى علم الخير وألهمه.