والهداية في اللغة الإرشاد، لكنها تتصرف على وجوه يعبر عنها المفسرون بغير لفظ الإرشاد، وكلها إذا تؤملت رجعت إلى الإرشاد.
فالهدى يجيء بمعنى: "خلق الإيمان في القلب" ومنه قوله تعالى: أولئك على هدى من ربهم وقوله تعالى: والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . وقوله تعالى: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء . وقوله تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام . قال أبو المعالي : فهذه آية لا يتجه حملها إلا على خلق الإيمان في القلب، وهو محض الإرشاد.
[ ص: 85 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد جاء من ذلك قوله تعالى: الهدى بمعنى "الدعاء". ولكل قوم هاد ، أي: داع، وقوله تعالى: وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم وهذا أيضا يبين فيه الإرشاد، لأنه ابتداء إرشاد، أجاب المدعو أو لم يجب.
وقد جاء الهدى بمعنى "الإلهام"، من ذلك قوله تعالى: أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، قال المفسرون: معناه: ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها. وهذا أيضا يبين فيه معنى الإرشاد.
وقد جاء الهدى بمعنى "البيان" من ذلك قوله تعالى: وأما ثمود فهديناهم ، قال المفسرون: معناه: بينا لهم، قال أبو المعالي : معناه دعوناهم. ومن ذلك قوله تعالى: إن علينا للهدى أي: علينا أن نبين، وفي هذا كله معنى الإرشاد، قال أبو المعالي : وقد ترد الهداية والمراد بها "إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان، والطرق المفضية إليها". من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ، ومنه قوله تعالى: فاهدوهم إلى صراط الجحيم ، معناه: فاسلكوهم إليها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذه الهداية بعينها هي التي تقال في طرق الدنيا، وهي ضد الضلال، وهي الواقعة في قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم . على صحيح التأويلات، وذلك يبين من لفظ الصراط، و"الهدى" لفظ مؤنث، وقال اللحياني : هو مذكر، قال : و "الهدى" اسم من أسماء النهار، قال ابن سيده ابن مقبل :
[ ص: 86 ]
حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة يخشعن في الآل غلفا أو يصلينا
و"الصراط" في اللغة الطريق الواضح، فمن ذلك قول جرير :أمير المؤمنين على صراط -إذا اعوج الموارد- مستقيم
فصد عن نهج الصراط الواضح.
وحكى : "الصراط" الطريق بلغة النقاش الروم ، وهذا ضعيف جدا.واختلف القراء في الصراط ...
فقرأ ، وجماعة من العلماء: "السراط" بالسين، وهذا هو أصل اللفظة. قال ابن كثير : ورويت عن الفارسي بالصاد، وقرأ باقي السبعة -غير ابن كثير - بصاد خالصة، وهذا بدل السين بالصاد لتناسبها مع الطاء في الإطباق فيحسنان في السمع، وحكاها حمزة لغة. قال سيبويه : روي عن أبو علي : "السين والصاد"، و"المضارعة بين الصاد والزاي"، رواه عنه أبي عمرو العريان بن أبي سفيان ، وروى عن الأصمعي أنه قرأها بزاي خالصة. قال بعض اللغويين: ما حكاه أبي عمرو من هذه القراءة خطأ منه، إنما سمع الأصمعي يقرأ بالمضارعة فتوهمها زايا، ولم يكن أبا عمرو نحويا فيؤمن على هذا، وحكى هذا الكلام الأصمعي عن أبو علي أبي بكر بن مجاهد ، وقرأ بين "الصاد والزاي"، وروي أيضا عنه أنه إنما يلتزم ذلك في المعرفة دون النكرة. قال حمزة : وهذه القراءة تكلف حرف بين حرفين، وذلك أصعب على اللسان، وليس بحرف يبنى [ ص: 87 ] عليه الكلام، ولا هو من حروف المعجم، ولست أدفع أنه من كلام فصحاء ابن مجاهد العرب ، إلا أن الصاد أفصح وأوسع.
وقرأ الحسن "اهدنا صراطا مستقيما" دون تعريف، وقرأ والضحاك جعفر بن محمد الصادق : "اهدنا صراط المستقيم" بالإضافة، وقرأ "بصرنا الصراط". ثابت البناني
واختلف المفسرون في المعنى الذي استعير له الصراط في هذا الموضع، وما المراد به؟ فقال رضي الله عنه: الصراط المستقيم" هنا القرآن . وقال علي بن أبي طالب : هو الإسلام، يعني الحنيفية، وقال: سعته ما بين السماء والأرض. وقال جابر محمد ابن الحنفية : هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره . وقال : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحباه أبو العالية أبو بكر ، وذكر ذلك وعمر فقال: صدق للحسن بن أبي الحسن ونصح . أبو العالية
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويجتمع من هذه الأقوال كلها أن الدعوة إنما هي في أن يكون الداعي على سنن المنعم عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين في معتقداته، وفي التزامه لأحكام شرعه، وذلك هو مقتضى القرآن والإسلام، وهو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، وهذا الدعاء إنما أمر به المؤمنون وعندهم المعتقدات، وعند كل واحد بعض الأعمال، فمعنى قولهم: "اهدنا" فيما هو حاصل عندهم: طلب التثبيت والدوام، وفيما ليس بحاصل إما من جهة الجهل به، أو التقصير في المحافظة عليه: طلب الإرشاد إليه. وأقول: إن كل داع به فإنما يريد الصراط بكماله في أقواله، وأفعاله، ومعتقداته، فيحسن على هذا أن يدعو في الصراط على الكمال من عنده بعضه، ولا يتجه أن يراد بـ "اهدنا" في هذه الآية: اخلق الإيمان في قلوبنا. لأنها هداية [ ص: 88 ] مقيدة إلى صراط، ولا أن يراد بها ادعنا، وسائر وجوه الهداية يتجه. و"الصراط" نصب على المفعول الثاني. و"المستقيم": الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف، والمراد أنه استقام على الحق، وإلى غاية الفلاح ودخول الجنة، وإعلال "مستقيم" أن أصله "مستقوم"، نقلت الحركة إلى القاف، وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.