تفسير سورة المدثر
وهي مكية بإجماع من أهل التأويل.
قوله عز وجل:
يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير
اختلف القراء في "المدثر" على نحو ما ذكرناه في [المزمل]، وفي حرف : [المدثر] ومعناه: المتدثر بثيابه، والدثار: ما يتغطى الإنسان به من الثياب. أبي بن كعب
واختلف الناس، لم ناداه بالمدثر؟ فقال جمهور المفسرين بما ورد في من البخاري جبريل عليه السلام على كرسي بين السماء والأرض فرعب منه ورجع إلى ، قال: زملوني زملوني، فنزلت خديجة "يا أيها المدثر"، وقالت أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من رؤية ، [ ص: 451 ] وقال عائشة النخعي : نودي وهو في حال تدثر فدعي بحال من أحواله، وروي أنه كان يدثر في قطيفة، وقال آخرون: معناه: أيها النائم، وقال وقتادة : معناه: يا أيها المدثر للنبوة وأثقالها. عكرمة
واختلف الناس في فقال أول ما نزل من كتاب الله تعالى، ، جابر بن عبد الله وأبو سلمة ، ، وجماعة: هو والنخعي "يا أيها المدثر" الآيات، وقال والجمهور: "هو اقرأ باسم ربك الذي خلق"، وهذا هو الأصح، وحديث صدر الزهري نص في ذلك. البخاري
وقوله تعالى: "قم فأنذر" بعثة إلى جميع الخلق، قال ، المعنى: أنذر عذاب الله ووقائعه بالأمم، وقوله تعالى: "وربك فكبر" معناه: عظمه بالعبادة وبث شرعه، وروي عن قتادة أن بعض المؤمنين قال: بم نفتتح صلاتنا؟ فنزلت: "وربك فكبر". أبي هريرة
[ ص: 452 ] واختلف المتأولون في معنى قوله "وثيابك فطهر"، فقال ، ابن سيرين وابن زيد بن أسلم ، ، وجماعة: هو أمر بتطهير الثياب حقيقة، وذهب والشافعي وغيره من هذه الآية إلى وجوب الشافعي وقال الجمهور: هذه الألفاظ استعارة في تنقية الأفعال والنفس وأعرض وهذا كما تقول: فلان طاهر الثوب، ويقال للفاجر: دنس الثوب، ومنه قول الشاعر : غسل النجاسات من الثياب،
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر .. لبست ولا من غدرة أتقنع
وقال الآخر:
لا هم إن عامر ابن جهم ... أوذم حجا في ثياب دهم
أي: دنسه، وقال ، ابن عباس ، وغيرهما: المعنى: ولا تلبسها على غدرة ولا فجور، وقال والضحاك رضي الله عنهما أيضا : المعنى: لا تلبسها من مكسب خبيث، وقال ابن عباس : المعنى: طهرها من الذنوب، وهذا كله معنى قريب بعضه من بعض، وقال النخعي : المعنى: قصرها وشمرها، فذلك طهرة للثياب. طاوس
وقرأ جمهور الناس "والرجز فاهجر" بكسر الراء، وقرأ حفص عن ، عاصم ، والحسن ، ومجاهد ، وأبو جعفر وشيبة ، وأبو عبد الرحمن ، والنخعي ، وابن وثاب ، وقتادة وابن أبي إسحاق ، : و"الرجز فاهجر" بضم الراء، فقيل: هما بمعنى يراد بهما الأصنام والأوثان، وقيل: للأصنام عموما، قاله والأعرج عكرمة ومجاهد ، وقال والزهري : "الرجز": السخط، فالمعنى: اهجر ما يؤدي إليه ويوجبه، [ ص: 453 ] وقال ابن عباس كل معصية رجز، وروى الحسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية بالأوثان. واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: جابر ولا تمنن تستكثر ، فقال وجماعة: معناه: لا تعط عطاء لتعطى أكثر منه، فكأنه من قولهم: "من إذا أعطى"، قال ابن عباس : وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ومباح لأمته لكن لا أجر لهم فيه، قال الضحاك : وهذا معنى قوله تعالى: مكي وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا معنى أجنبي من معنى هذه السورة.
وحكى عن النقاش رضي الله عنهما أنه قال: ابن عباس "ولا تمنن تستكثر": لا تقل: دعوت فلم أجب وروى أن المعنى: لا تدل بعملك، ففي هذا التأويل تحريض على الجد وتخويف، وقال قتادة : معناه: ولا تمنن على الناس بنبوءتك تستكثر بأجر أو بكسب تطلبه منهم، وقال ابن زيد معناه: على الله تعالى بجدك تستكثر أعمالك ويقع لك بها إعجاب، فهذه كلها من المن الذي هو تعديد اليد وذكرها، وقال الحسن بن أبي الحسن: : معناه: ولا تضعف تستكثر ما حملناك من أعباء الرسالة وتستكثر من الخير، فهذه من قولهم: "حبل منين" أي: ضعيف. وفي قراءة مجاهد : "ولا تمنن أن تستكثر"، وقرأ ابن مسعود : "تستكثر" بنصب الراء على تقدير "أن" مضمرة، وضعف الأعمش الجزم، وقرأ أبو حاتم : "ولا تمنن فتستكثر" بالفاء العاطفة والجزم، وقرأ ابن أبي عبلة أبو السمال: "ولا تمن" بنون واحدة مشددة.
[ ص: 454 ] "ولربك فاصبر"، أي لوجه ربك وطلب رضاه، كما تقول: فعلت لله تعالى، والمعنى: على الأدنى من الكفار، وعلى العبادة، وعن الشهوات، وعلى تكاليف النبوة، قال : وعلى حرب الأحمر والأسود، لقد حمل صلى الله عليه وسلم أمرا عظيما. ابن زيد
و"الناقور": الذي ينفخ فيه، وهو الصور، قاله ابن عباس ، وقال وعكرمة خفاف بن ندبة:
إذا ناقورهم يوما تبدى أجاب الناس من شرق وغرب
وهو" فاعول" من النقر، وقال أبو حباب: أمنا زرارة بن أوفى فلما بلغ " فإذا نقر في الناقور" خر ميتا، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقمه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر بالنفخ"؟ ففزع فقالوا: كيف نقول يا رسول الله؟ قال: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا".
ويوم عسير معناه: في عسر في الأمور الجارية على الكفار، فوصف الله تعالى اليوم بالعسر لكونه ظرف زمان له، وكذلك تجيء صفته باليسر، وقرأ "عسر" بغير ياء. الحسن