تفسير سورة آل عمران
هذه السورة مدنية بإجماع فيما علمت، وذكر أن اسم هذه السورة في التوراة طيبة. النقاش
قوله عز وجل:
الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام
قد تقدم ذكر اختلاف العلماء في الحروف التي في أوائل السور في أول سورة البقرة، ومن حيث جاء في هذه السورة الله لا إله إلا هو الحي القيوم جملة قائمة بنفسها فتتصور تلك الأقوال كلها في: "الم" في هذه السورة، وذهب في النظم إلى أن أحسن الأقوال هنا أن يكون "الم" إشارة إلى حروف المعجم كأنه يقول: هذه الحروف كتابك أو نحو هذا، ويدل قوله الجرجاني الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب على ما ترك ذكره مما هو خبر عن الحروف، قال: وذلك في نظمه مثل قوله تعالى: أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه وترك الجواب لدلالة قوله: فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله تقديره: كمن قسا قلبه. ومنه قول الشاعر:
[ ص: 148 ]
فلا تدفنوني إن دفني محرم ... عليكم، ولكن خامري أم عامر
التقدير: ولكن اتركوني للتي يقال لها: "خامري أم عامر".
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
يحسن في هذا القول أن يكون "نزل" خبر قوله "الله" حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى. وهذا الذي ذكره القاضي الجرجاني فيه نظر، لأن مثله ليست صحيحة الشبه بالمعنى الذي نحا إليه، وما قاله في الآية محتمل، ولكن الأبرع في نظم الآية أن تكون "الم" لا تضم ما بعدها إلى نفسها في المعنى، وأن يكون الله لا إله إلا هو الحي القيوم كلاما مبتدأ جزما جملة رادة على نصارى نجران الذين وفدوا على رسول الله عليه السلام فحاجوه في عيسى ابن مريم وقالوا: إنه الله، وذلك أن ابن إسحاق وغيرهما ممن ذكر السير، رووا والربيع أن وفد نجران قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصارى ستون راكبا، فيهم من أشرافهم أربعة عشر رجلا، في الأربعة عشر ثلاثة نفر، إليه يرجع أمرهم: العاقب أمير القوم وذو رأيهم واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم وصاحب مجتمعهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل أسقفهم وعالمهم; فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد إثر صلاة العصر، عليهم الحبرات جبب وأردية، فقال أصحاب رسول الله عليه السلام: ما رأينا وفدا مثلهم جمالا وجلالة، وحانت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشرق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوهم"; ثم أقاموا بالمدينة أياما يناظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى ويزعمون أنه الله، إلى غير ذلك من أقوال بشعة مضطربة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بالبراهين الساطعة وهم لا يبصرون، ونزل فيهم صدر هذه السور إلى نيف وثمانين آية، إلى أن آل أمرهم إلى أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الابتهال، وسيأتي تفسير ذلك.
[ ص: 149 ] وقرأ السبعة "ألم الله" بفتح الميم والألف ساقطة، وروي عن أنه سكن الميم ثم قطع الألف، روى الأولى التي هي كالجماعة عاصم حفص، وروى الثانية وذكرها أبو بكر، عن الفراء وقرأ عاصم، أبو جعفر الرؤاسي وأبو حيوة " ألم" بكسر الميم للالتقاء وذلك رديء لأن الياء تمنع من ذلك، والصواب الفتح قراءة جمهور الناس. قال حروف التهجي مبنية على الوقف فالميم ساكنة واللام ساكنة، فحركت الميم بالفتح كما حركت النون في قولك: من الله ومن المسلمين إلى غير ذلك. أبو علي:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ومن قال بأن حركة الهمزة ألقيت على الميم فذلك ضعيف لإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل، فما يسقط فلا تلقى حركته، قاله أبو علي.
وقد تقدم تفسير قوله: "الحي القيوم" في آية الكرسي، والآية هنالك إخبار لجميع الناس، وكررت هنا إخبارا لحجج هؤلاء النصارى، وللرد عليهم أن هذه الصفات لا يمكنهم ادعاؤها لعيسى عليه السلام، لأنهم إذ يقولون إنه صلب، فذلك موت في معتقدهم لا محالة، إذ من البين أنه ليس بقيوم.
وقرأ جمهور القراء "القيوم" وزنه فيعول، وقرأ رضي الله عنه عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعلقمة بن قيس "القيام" وزنه- فيعال- وروي عن أيضا أنه [ ص: 150 ] قرأ "القيم" وزنه فيعل، وهذا كله من: قام بالأمر يقوم به إذا اضطلع بحفظه وبجميع ما يحتاج إليه في وجوده، فالله تعالى القيام على كل شيء بما ينبغي له أو فيه أو عليه. علقمة
وتنزيل الله الكتاب هو بواسطة الملك جبريل عليه السلام، و"الكتاب" في هذا الموضع القرآن باتفاق من المفسرين، وقرأ جمهور الناس "نزل عليك" بتشديد الزاي "الكتاب" بنصب الباء، وقرأ "نزل عليك الكتاب" بتخفيف الزاي ورفع الباء، وهذه الآية تقتضي أن قوله: إبراهيم النخعي الله لا إله إلا هو الحي القيوم جملة مستقلة منحازة.
وقوله "بالحق" يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون المعنى ضمن الحقائق من خيره وأمره ونهيه ومواعظه، فالباء على حدها في قوله: جاءني كتاب بخبر كذا وكذا، أي ذلك الخبر مقتص فيه، والثاني: أن يكون المعنى أنه نزل الكتاب باستحقاق أن ينزل لما فيه من المصلحة الشاملة، وليس ذلك على أنه واجب على الله تعالى أن يفعله، بل له بالحق أن يفعله، فالباء في هذا المعنى على حدها في قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق . وقال محمد بن جعفر بن الزبير: معنى قوله "بالحق": أي مما اختلف فيه أهل الكتاب واضطرب فيه هؤلاء النصارى الوافدون، وهذا داخل في المعنى الأول.
و"مصدقا" حال مؤكدة، وهي راتبة غير منتقلة لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق لما بين يديه من كتاب الله، فهو كقول ابن دارة:
أنا ابن دارة معروفا بها نسبي ... وهل بدارة يا للناس من عار؟
و"ما بين يديه" التوراة والإنجيل وسائر كتب الله التي تلقيت من شرعنا كالزبور [ ص: 151 ] والصحف; وما بين اليد في هذه الحوادث هو المتقدم في الزمن.
و"التوراة والإنجيل" اسمان أصلهما عبراني، لكن النحاة وأهل اللسان حملوها على الاشتقاق العربي، فقالوا في التوراة: إنها من وري الزند يري إذا قدح وظهرت ناره، يقال: أوريته فوري، ومنه قوله تعالى: "فالموريات" وقوله: أفرأيتم النار التي تورون . قال فأما قولهم: وريت بك زنادي على وزن فعلت، فزعم أبو علي: أبو عثمان أنه استعمل في هذا الكلام فقط ولم يجاوز به غيره.
وتوراة عند الخليل وسائر البصريين فوعلة، كحوقلة، أصلها وورية قلبت الواو الأولى تاء، كما قلبت في "تولج" وأصله "وولج" من: ولجت. وحكى وسيبويه عن بعض الكوفيين: أن توراة أصلها تفعلة بفتح العين، من: وريت بك زنادي، قال الزجاج القاضي أبو محمد رحمه الله:
وإنما ينبغي أن تكون من: أوريت، قال: فهي تورية. وقال بعضهم: يصلح أن تكون تفعلة بكسر العين مثل توصية "ثم ردت إلى تفعلة بفتح العين. قال وكأنه يجيز في توصية" توصأة وذلك غير مسموع، وعلى كل قول فالياء لما انفتح ما قبلها وتحركت هي انقلبت ألفا فقيل: توراة، ورجح الزجاج قول البصريين وضعفه غيره. أبو علي
وقرأ ابن كثير وابن عامر "التوراة" مفتوحة الراء، وكان وعاصم حمزة يلفظان بالراء بين اللفظين بين الفتح والكسر، وكذلك فعلا في قوله: "مع الأبرار" و "من الأشرار" و "من قرار" إذا كان الحرف مخفوضا. وروى ونافع المسيبي عن فتح الراء من التوراة، وروى نافع عنه كسرها، وكان ورش أبو عمرو يكسران [ ص: 152 ] الراء من التوراة ويميلان "من الأبرار" وغيرها أشد من إمالة والكسائي حمزة ونافع.
وقالوا في الإنجيل: إنه إفعيل من النجل، وهو الماء الذي ينز من الأرض; قال استنجلت الأرض وبها نجال إذا خرج منها الماء. والنجل أيضا الولد والنسل قاله الخليل: وغيره، ونجله أبوه أي ولده، ومن ذلك قول الخليل الأعشى:
أنجب أيام والداه به ... إذ نجلاه فنعم ما نجلا
قال عن ابن سيده معنى قوله: "أيام والداه به" كما تقول: أنا بالله وبك، وقال أبي علي: أبو الفتح: معنى البيت: أنجب والداه به أيام إذ نجلاه، فهو كقولك: حينئذ ويومئذ لكنه حال بالفاعل بين المضاف الذي هو "أيام" وبين المضاف إليه الذي هو "إذ". ويروى هذا البيت: "أنجب أيام والديه". والنجل: الرمي بالشيء وذلك أيضا من معنى الظهور وفراق شيء شيئا، وحكى في نوادره: أن الوالد يقال له: نجل، وأن اللفظة من الأضداد، وأما بيت أبو القاسم الزجاجي زهير فالرواية الصحيحة فيه:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وكل فحل له نجل
أي ولد كريم ونسل. وروى فيما حكي "عنه" "وكل فرع له نجل"، وهذا لا يتجه إلا على تسمية الوالد نجلا. وقال الأصمعي الزجاج:
الإنجيل مأخوذ من النجل وهو الأصل، فهذا ينحو إلى ما حكى أبو القاسم.
قال أبو الفتح: فالتوراة من ورى الزناد إذا ظهرت ناره والإنجيل من نجل إذا ظهر ولده، أو من ظهور الماء من الأرض، فهو مستخرج إما من اللوح المحفوظ وإما من التوراة.
و"الفرقان" من الفرق بين الحق والباطل، فحروفها مختلفة، والمعنى قريب [ ص: 153 ] بعضه من بعض، إذ كلها معناه: ظهور الحق، وبيان الشرع وفصله من غيره من الأباطيل.
وقرأ "الأنجيل" - بفتح الهمزة - وذلك لا يتجه في كلام الحسن بن أبي الحسن العرب، ولكن تحميه مكانة من الفصاحة، وأنه لا يقرأ إلا بما روى، وأراه نحا به نحو الأسماء الأعجمية. الحسن
وقوله تعالى: من قبل يعني من قبل القرآن.
وقوله: "هدى للناس" معناه دعاء، والناس: بنو إسرائيل في هذا الموضع، لأنهم المدعوون بهما لا غير، وإن أراد أنهما هدى في ذاتهما مدعو إليه فرعون وغيره، منصوب لمن اهتدى به، فالناس عام في كل من شاء حينئذ أن يستبصر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقال هنا "للناس"، وقال في القرآن: "هدى للمتقين" وذلك عندي لأن هذا خبر مجرد، وقوله: "هدى للمتقين" خبر مقترن به الاستدعاء والصرف إلى الإيمان، فحسنت الصفة، ليقع من السامع النشاط والبدار، وذكر الهدى الذي هو إيجاد الهداية في القلب، وهنا إنما ذكر الهدى الذي هو الدعاء، والهدى الذي هو في نفسه معد يهتدي به الناس، فسمي هدى لذلك، وقال التقدير هنا: هدى للناس المتقين، ويرد هذا العام إلى ذلك الخاص، وفي هذا نظر. ابن فورك:
والفرقان: القرآن، سمي بذلك لأنه فرق بين الحق والباطل، قال محمد بن جعفر: فرق بين الحق والباطل في أمر عيسى عليه السلام، الذي جادل فيه الوفد، وقال قتادة وغيرهما: فرق بين الحق والباطل في أحكام الشرائع، وفي الحلال والحرام [ ص: 154 ] ونحوه، والفرقان يعم هذا كله. وقال بعض المفسرين: الفرقان هنا: كل أمر فرق بين الحق والباطل، فيما قدم وحدث، فيدخل في هذا التأويل طوفان والربيع نوح، وفرق البحر لغرق فرعون، ويوم بدر، وسائر أفعال الله تعالى المفرقة بين الحق والباطل، فكأنه تعالى ذكر الكتاب العزيز، ثم التوراة والإنجيل، ثم كل أفعاله ومخلوقاته التي فرقت بين الحق والباطل، كما فعلت هذه الكتب ثم توعد تعالى الكفار عموما بالعذاب الشديد، وذلك يعم عذاب الدنيا بالسيف والغلبة، وعذاب الآخرة بالنار، والإشارة بهذا الوعيد إلى نصارى نجران، وقال إلى اليهود، النقاش: كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وابني أخطب وغيرهم.
و"عزيز"، معناه: غالب، وقد ذل له كل شيء والنقمة والانتقام: معاقبة المذنب بمبالغة في ذلك..