تفسير سورة المطففين
وهي مكية في قول جماعة من المفسرين، واحتجوا لذكر الأساطير، وهذا على أن هذا تطفيف الكيل والوزن كان بمكة حسب ما هو في كل أمة، لا سيما مع كفرهم، وقال ، ابن عباس ، والسدي ، وغيرهم: السورة مدنية، قال والنقاش : كان السدي بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة، له مكيالان، يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص، فنزلت السورة، ويقال: إنها أول سورة نزلت بالمدينة، وقال رضي الله عنهما أيضا -فيما روي عنه-: نزل بعضها ابن عباس بمكة، ونزل أمر التطفيف بالمدينة; لأنهم كانوا أشد الناس فسادا في هذا المعنى، فأصلحهم الله تعالى.
بهذه السورة، وقال آخرون: نزلت السورة بين مكة والمدينة، وذلك ليصلح الله تعالى قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وأمر الكيل والوزن وكيد جدا، وتصرفه في المدن ضروري في الأموال التي هي حرام بغير حق، والإفساد فيه كبيرة لا تنفع فيها دافع إلا التوبة، ولا يخلص إلا رد المظلمة إلى صاحبها. قال : احتضر جار لي، فجعل يقول: جبلان من نار، فقلت له: ما هذا؟ فقال: يا مالك بن دينار أبا يحيى، كان لي مكيالان، آخذ بالوافي وأعطي بالناقص، وقال : أشهد على كل كيال أو وزان أنه في النار، وقال بعض عكرمة العرب: لا تلتمسوا المروءة ممن مروءته في رؤوس المكاييل وألسنة الموازين.
قوله عز وجل:
ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين
قوله تعالى وقد روي عن "ويل" معناه: الثبور والحزن والشقاء الأدوم، وغيره أن واديا في جهنم يسمى "ويلا"، ورفع "ويل" على الابتداء، ورفع على معنى: ثبت لهم واستقر، وما كان في حيز الدعاء والترقب فهو منصوب نحو قولهم: [ ص: 557 ] رعيا وسقيا. ابن مسعود أصله من الشيء الطفيف وهو النزر، والمطفف إنما يأخذ بالميزان شيئا طفيفا. وقال و"المطفف": الذي ينقص الناس حقوقهم، والتطفيف: النقصان، : الصلاة مكيال، فمن أوفى وفي له، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله تعالى في المطففين، وقال بعض العلماء: يدخل التطفيف في كل عمل قول، ومنه قول سلمان رضي الله عنه: طففت معناه: نقصت الأجر والعمل، ولذلك قال عمر رحمه الله: يقال لكل شيء وفاء وتطفيف، فجاء بالنقيضين. وقد ذهب بعض الناس إلى أن التطفيف هو تجاوز الحد في وفاء أو نقصان، والمعنى والقرائن بحسب قول قول تبين المراد، وهذا عندي حد صحيح، وقد بين الله تعالى أن التطفيف ها هنا إنما أراد به أمر الوزن والكيل. مالك
"واكتالوا على الناس" معناه: قبضوا منهم، و"كالوهم" معناه: أقبضوهم، يقال: كلت منك واكتلت عليك، ويقال: كلتك وكلت لك، فلما حذفت اللام تعدى الفعل، قال الفراء وأنشد والأخفش أبو زيد :
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
وعلى هذا المعنى هي قراءة الجمهور، وكان يجعلها حرفين، ويقف على "كالوا" "أو وزنوا" ويبتدئ "هم يخسرون"، أي: إذا كالوا أو وزنوا، [ ص: 558 ] ورويت عن عيسى بن عمر ، فقوله تعالى: "هم" تأكيد للضمير. وظاهر هذه الآية يقتضي أن الكيل والوزن على البائع، وليس ذلك بالجلي، وصدر الآية هو في المشترين، قدمهم بأنهم يستوفون ويشاحون في ذلك، إذ لا تمكنهم الزيادة على الاستيفاء لأن البائع يحفظ نفسه، فهذا مبلغ قدرتهم في ترك الفضيلة والسماحة المندوب إليه، ثم ذكر تعالى أنهم إذا باعوا أمكنهم من الظلم والتطفيف أن يخسروا لأنهم يتولون الكيل للمشتري منهم وذلك هم بحالة من يخسر البائع إن قدر. و"يخسرون" تعدى بالهمزة يقال: خسر الرجل وأخسر غيره، والمفعول بـ "كالوا" محذوف. حمزة
ثم وقفهم تعالى على أمر القيامة وذكرهم بها، وهذا يؤيد أنها نزلت بالمدينة في قوم من مؤمنين، وأريد بها -مع ذلك- من غير هذه الأمة. ويظن هنا بمعنى يتحقق ويعلم. و"يوم" ظرف عمل فيه فعل مقدر، "تبعثون" ونحوه، وقال و"اليوم العظيم" يوم القيامة، : هو بدل من "يوم عظيم" لكنه مبني، ويأبى ذلك البصريون لأنه مضاف إلى معرب. الفراء
يختلف الناس فيه بحسب منازلهم، فروي عن و"قام الناس فيه لرب العالمين" عن النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو أنه يقام فيه خمسين ألف سنة، وهذا بتقدير شدته، وقيل: ثلاثمائة سنة، قاله النبي عليه الصلاة والسلام، وقال : مائة سنة، وقيل: ثمانون سنة، وقال ابن عمر : أربعون سنة رافعي رؤوسهم إلى السماء لا يؤمرون ولا يكلمون، وقيل غير هذا، ومن هذا كله آثار مروية، ومعناها إن كل مدة [ ص: 559 ] لقوم ما تقتضي حالهم وشدة أمرهم ذلك، وروي أن القيام فيه على المؤمن هو على ما بين الظهر إلى العصر، وروي عن بعض الناس على قدر صلاة مكتوبة، وفي هذا القيام هو إلجام العرق للناس، وهو أيضا مختلف، فيروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق ابن مسعود أنه يلجم الكافر إلجاما، ويروى أن بعض الناس يكون فيه إلى أنصاف ساقيه، وبعضهم إلى فوق، وبعضهم إلى أسفل. عقبة بن عامر