هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين
هناك - في كلام العرب - إشارة إلى مكان فيه بعد أو زمان، وهنالك باللام - أبلغ في الدلالة على البعد، ولا يعرب "هنالك" لأنه إشارة فأشبه الحروف التي جاءت لمعنى.
ومعنى هذه الآية: أن في الوقت الذي رأى زكريا رزق الله لمريم ومكانتها منه، وفكر في أنها جاءت أمها بعد أن أسنت، وأن الله تقبلها وجعلها من الصالحات، تحرك أمله لطلب الولد وقوي رجاؤه، وذلك منه على حال سن ووهن عظم واشتعال شيب، وذلك لخوفه الموالي من ورائه - حسبما يتفسر في سورة مريم إن شاء الله - فدعا ربه أن يهب له ذرية طيبة. و "الذرية": اسم جنس يقع على واحد فصاعدا كما الولي اسم جنس كذلك، وقال إنما أراد هنا بالذرية واحدا ودليل ذلك طلبه وليا ولم يطلب أولياء، وأنث "الطيبة" حملا على لفظ الذرية كما قال الشاعر: الطبري:
أبوك خليفة ولدته أخرى ... وأنت خليفة ذاك الكمال
[ ص: 207 ] وكما قال الآخر:
فما تزدري من حية جبلية ... سكات إذا ما عض ليس بأدردا
وفيما قال تعقب، وإنما الذرية والولي اسما جنس يقعان للواحد فما زاد، وهكذا كان طلب الطبري زكريا عليه السلام، و"طيبة" معناه: سليمة في الخلق والدين نقية، "سميع" في هذه الآية بناء اسم فاعل.
ثم قال تعالى: فنادته الملائكة وترك محذوف كثير دل ما ذكر عليه، تقديره: فقبل الله دعاءه، ووهبه يحيى، وبعث الملك أو الملائكة بذلك إليه، فنادته، وذكر أنه كان بين دعائه والاستجابة له بالبشارة أربعون سنة، وذكر جمهور المفسرين أن المنادي المخبر إنما كان جبريل وحده، وهذا هو العرف في الوحي إلى الأنبياء، وقال قوم: بل نادت ملائكة كثيرة حسبما تقتضيه ألفاظ الآية. وقد وجدنا الله تعالى بعث ملائكة إلى لوط وإلى إبراهيم عليه السلام وفي غير ما قصة.
وفي مصحف وقراءته: "فناداه جبريل وهو قائم يصلي" . وقرأ عبد الله بن مسعود ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر "فنادته" بالتاء "الملائكة" ، وقرأ وأبو عمرو: حمزة "فناداه الملائكة" - بالألف وإمالة الدال -. قال والكسائي: من قرأ بالتاء فلموضع الجماعة ،والجماعة ممن يعقل في جمع التكسير; تجري مجرى ما لا يعقل، ألا ترى أنك تقول: هي الرجال كما تقول: هي الجذوع وهي الجمال، ومثله "قالت الأعراب" . ففسر أبو علي: على أن المنادي ملائكة كثيرة، والقراءة بالتاء على قول من يقول: أبو علي
المنادي جبريل وحده متجهة على مراعاة لفظ الملائكة، وعبر عن جبريل بالملائكة إذ هو منهم، فذكر اسم الجنس كما قال تعالى: "الذين قال لهم الناس"، قال ومن قرأ: "فناداه الملائكة" ، فهو كقوله تعالى: "وقال نسوة في المدينة" . أبو علي:
[ ص: 208 ] قال القاضي: وهذا على أن المنادي كثير، ومن قال إنه جبريل وحده كالسدي وغيره فأفرد الفعل مراعاة للمعنى، وعبر عن جبريل عليه السلام بالملائكة إذ هو اسم جنسه.
وقوله تعالى: "فنادته" عبارة تستعمل في التبشير وفيما ينبغي أن يسرع به وينهى إلى نفس السامع ليسر به، فلم يكن هذا من الملائكة إخبارا على عرف الوحي، بل نداء كما نادى الرجل الأنصاري من أعلى الجبل. كعب بن مالك
وقوله تعالى: هو قائم جملة في موضع الحال، و"يصلي" صفة لـ "قائم" ، و"المحراب" في هذا الموضع موقف الإمام من المسجد.
وقرأ ابن عامر "إن الله" بكسر الألف، قال وحمزة: وهذا على إضمار القول، كأنه قال: "فنادته الملائكة" فقالت، وهذا كقوله تعالى: "فدعا ربه إني مغلوب" على قراءة من كسر الألف، وقال بعض النحاة: كسرت بعد النداء والدعاء لأن النداء والدعاء أقوال. وقرأ الباقون بفتح الألف من قوله: "أن الله يبشرك" قال أبو علي: المعنى: فنادته بأن الله، فلما حذف الجار منها وصل الفعل إليها فنصبها، فأن في موضع نصب، وعلى قياس قول أبو علي: في موضع جر. وفي قراءة الخليل "في المحراب يا زكرياء إن الله" ، قال عبد الله فقوله: "زكرياء" في موضع نصب بوقوع النداء عليه، ولا يجوز فتح الألف في "إن" على هذه القراءة لأن "نادته" قد استوفت مفعوليها، أحدهما الضمير،، والآخر المنادى، فإن فتحت "إن" لم يبق لها شيء متعلق به، قال أبو علي: وكلهم قرأ: "في المحراب" بفتح الراء - إلا أبو علي: فإنه أمالها، وأطلق ابن عامر القول في إمالة ابن مجاهد الألف من "محراب" ولم يخص به الجر من غيره، وقال غير ابن عامر إنما نميله في الجر فقط. ابن مجاهد:
وقرأ ابن كثير "يبشرك" ، بضم الياء وفتح الباء والتشديد - في كل القرآن إلا في: "عسق" فإنهما قرآ "ذلك الذي يبشر الله عباده: - بفتح الياء وسكون الباء وضم [ ص: 209 ] الشين، وقرأ وأبو عمرو: نافع وعاصم "يبشرك" بشد الشين المكسورة في كل القرآن، وقرأ وابن عامر: "يبشر" خفيفا - بضم الشين "مما لم يقع" في كل القرآن إلا قوله تعالى: "فبم تبشرون". وقرأ حمزة: "يبشر" مخففة في خمسة مواضع: في آل عمران في قصة الكسائي: زكريا وقصة مريم، وفي سورة بني إسرائيل والكهف: "ويبشر المؤمنين" وفي عسق- "يبشر الله عباده".
قال غير واحد من اللغويين: في هذه اللفظة ثلاث لغات، بشر بشد الشين، وبشر بتخفيفها، وأبشر يبشر إبشارا، وهذه القراءات كلها متجهة فصيحة مروية، وفي قراءة "يبشرك" -بضم الياء وتخفيف الشين المكسورة- من "أبشر" وهكذا قرأ في كل القرآن. عبد الله بن مسعود:
و "يحيى" اسم سماه الله به قبل أن يولد، قال هو اسم بالعبرانية صادف هذا البناء، والمعنى من العربية، قال أبو علي: لا ينصرف لأنه إن كان أعجميا ففيه التعريف والعجمة، وإن كان عربيا فالتعريف ووزن الفعل، وقال الزجاج: سماه الله قتادة: يحيى لأنه أحياه بالإيمان و"مصدقا" نصب على الحال، وهي مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم السلام.
وقوله تعالى: "بكلمة من الله"، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن وغيرهم: الكلمة هنا يراد بها والسدي عيسى ابن مريم. عيسى كلمة إذ صدر عن كلمة منه تعالى لا بسبب إنسان آخر كعرف البشر. وروى وسمى الله تعالى أن ابن عباس امرأة زكرياء قالت لمريم وهما حاملتان: إني أجد ما في بطني يتحرك لما في بطنك، وفي بعض الروايات: يسجد لما في بطنك قال: فذلك تصديقه، أي: أول التصديق. وقال بعض الناس: "بكلمة من الله" معناه: بكتاب من الله، الإنجيل وغيره من كتب الله، فأوقع المفرد [ ص: 210 ] موقع الجمع، فـ "كلمة": اسم جنس، وعلى هذا النظر سمت العرب القصيدة الطويلة كلمة.
وقوله تعالى: وسيدا قال فيه أي والله، سيد في الحلم والعبادة والورع، وقال مرة: معناه: في العلم والعبادة، وقال قتادة: "وسيدا" أي حليما، وقال مرة: السيد: التقي، وقال ابن جبير: "وسيدا" أي تقيا حليما، وقال الضحاك: السيد الشريف، وقال ابن زيد: السيد الفقيه العالم، وقال ابن المسيب: "وسيدا" يقول، تقيا حليما، وقال ابن عباس: السيد الذي لا يغلبه الغضب. عكرمة:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
كل من فسر من هؤلاء العلماء المذكورين السؤدد بالحلم، فقد أحرز أكثر معنى السؤدد، ومن جرد تفسيره بالعلم والتقى ونحوه فلم يفسر بحسب كلام العرب، وقد تحصل العلم ليحيى عليه السلام بقوله عز وجل: مصدقا بكلمة من الله ، وتحصل التقى بباقي الآية. وخصه الله بذكر السؤدد الذي هو الاعتمال في رضى الناس على أشرف الوجوه دون أن يقع في باطل- هذا لفظ يعم السؤدد، وتفصيله أن يقال: بذل الندى وهذا هو الكرم، وكف الأذى وهنا هي العفة بالفرج واليد واللسان، واحتمال العظائم وهنا هو الحلم وغيره من تحمل الغرامات وجبر الكسير والإفضال على المسترفد والإنقاذ من الهلكات. وانظر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: آدم ولا فخر، يجمع الله الأولين والآخرين"، وذكر حديث الشفاعة في إطلاق الموقف، وذلك منه احتمال في رضى ولد "أنا سيد ولد آدم فهو سيدهم بذلك. وقد يوجد من الثقات العلماء من لا يبرز في هذه الخصال، وقد يوجد من يبرز في هذه فيسمى سيدا وإن قصر في كثير من الواجبات، أعني واجبات الندب والمكافحة في الحق وقلة المبالاة باللائمة. وقد قال رضي الله عنه: ما رأيت أحدا أسود من عبد الله بن عمر قيل له: [ ص: 211 ] معاوية بن أبي سفيان، وأبو بكر قال: هما خير من وعمر؟ معاوية، أسود منهما. فهذه إشارة إلى أن ومعاوية برز في هذه الخصال ما لم يواقع محذورا; وأن معاوية أبا بكر كانا من الاستضلاع بالواجبات وتتبع ذلك من أنفسهما وإقامة الحقائق على الناس بحيث كانا خيرا من وعمر ومع تتبع الحقائق، وحمل الناس على الجادة، وقلة المبالاة برضاهم، والوزن بقسطاس الشريعة تحريرا ينخرم كثير من هذه الخصال التي هي السؤدد ويشغل الزمن عنها. والتقى والعلم والأخذ بالأشد أوكد وأعلى من السؤدد، أما إنه يحسن بالتقي العالم أن يأخذ من السؤدد بكل ما لا يخل بعلمه وتقاه، وهكذا كان معاوية، يحيى عليه السلام، وليس هذا الذي يحسن بواجب ولا بد، كما ليس التتبع والتحرير في الشدة بواجب ولا بد، وهما طرفا خير حفتهما الشريعة، فمن صائر إلى هذا ومن صائر إلى هذا، ومثال ذلك، حاكم صليب معبس فظ على من عنده أدنى عوج لا يعتني في حوائج الناس، وآخر بسط الوجه بسام يعتني فيما يجوز، ولا يتتبع ما لم يرفع إليه وينفذ الحكم مع رفق بالمحكوم عليه، فهما طريقان حسنان.
وقوله: "وحصورا" أصل هذه اللفظة الحبس والمنع، ومنه الحصير لأنه يحصر من جلس عليه، ومنه سمي السجن حصيرا وجهنم حصيرا، ومنه حصر العدو وإحصار المرض والعذر، ومنه قيل: للذي لا ينفق مع ندمائه حصور، قال الأخطل:
وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسوار
ويقال للذي يكتم السر حصور وحصر، قال جرير:
ولقد تساقطني الوشاة فصادفوا ... حصرا بسرك يا أميم ضنينا
وأجمع من يعتد بقوله من المفسرين على أن هذه الصفة ليحيى عليه السلام إنما هي الامتناع من وطء النساء، إلا ما حكى من قول من قال: إنه الحصور عن الذنوب [ ص: 212 ] أي لا يأتيها. وروى مكي عن ابن المسيب ابن العاصي- إما عبد الله وإما أبوه- عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكرياء" قال: ثم دلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الأرض فأخذ عويدا صغيرا، ثم قال: "وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود، ولذلك سماه الله سيدا وحصورا" وقال "كل بني الحصور: العنين، وقال ابن مسعود: مجاهد الحصور: الذي لا يأتي النساء، وقال وقتادة: ابن عباس الحصور: الذي لا ينزل الماء. والضحاك:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ذهب بعض العلماء إلى أن حصر يحيى عليه السلام كان لأنه لم يكن له إلا مثل الهدبة، وذهب بعضهم إلى أن حصره كان لأنه كان عنينا لا يأتي النساء وإن كانت خلقته غير ناقصة، وذهب بعضهم إلى أن حصره كان بأنه كان يمسك نفسه تقى وجلدا في طاعة الله، وكانت به القدرة على جماع النساء. قالوا: وهذا أمدح له وليس له في التأويلين الأولين مدح، إلا بأن الله يسر له شيئا لا تكسب له فيه، وباقي الآية بين، وروي من صلاحه عليه السلام أنه كان يعيش من العشب، وأنه كان كثير البكاء من خشية الله حتى خدد الدمع في وجهه طرقا وأخاديد.