[ ص: 217 ] قوله عز وجل:
وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين
قال العامل في "إذ" قوله: "سميع" فهو عطف على قوله: الطبري: إذ قالت امرأت عمران ، وقال كثير من النحاة: العامل في "إذ" في هذه الآية فعل مضمر تقديره: "واذكر" وهذا هو الراجح لأن هذه الآيات كلها إنما هي إخبارات بغيب تدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، مقصد ذكرها هو الأظهر في حفظ رونق الكلام.
وقرأ عبد الله بن عمر "وإذ قال الملائكة". وابن مسعود:
واختلف المفسرون - هل المراد هنا بالملائكة جبريل وحده، أو جمع من الملائكة؟ وقد تقدم القول على معنى مثلها في قوله تعالى: فنادته الملائكة .
و"اصطفاك" : مأخوذ من صفا يصفو وزنه "افتعل"، وبدلت طاء لتناسب الصاد. فالمعنى: تخيرك لطاعته.
وقوله تعالى: "وطهرك " معناه: من كل ما يصم النساء في خلق أو خلق أو دين، قاله وغيره. وقال مجاهد قد جاء في التفسير أن معناه: من الحيض والنفاس; وهذا يحتاج إلى سند قوي وما أحفظه. الزجاج:
وقوله تعالى: واصطفاك على نساء العالمين إن جعلنا "العالمين" عاما فيمن تقدم وتأخر جعلنا الاصطفاء مخصوصا في أمر عيسى عليه السلام وأنها اصطفيت لتلد من غير فحل، وإن جعلنا الاصطفاء عاما جعلنا قوله: "العالمين" مخصوصا في عالم ذلك الزمان، قاله وغيره، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ابن جريج "خير نساء الجنة مريم بنت عمران، خير نساء الجنة خديجة بنت خويلد"، وروي عنه أنه قال: مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد" فذهب "خير نسائها وغيره إلى أن الضمير في قوله: الطبري يراد به الجنة، وذهب قوم إلى أنه يراد به الدنيا، أي كل امرأة في زمانها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "خير نسائها" قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه إلى زوج في ذات يده" .قال "خير نساء ركبن الإبل صالح نساء [ ص: 218 ] راوي الحديث: ولم تركب أبو هريرة مريم بنت عمران بعيرا قط، وهذه الزيادة فيها غيب، فلا يتأول أن رضي الله عنه قالها إلا عن سماع من النبي صلى الله عليه وسلم وروى أبا هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنس بن مالك مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد". وقد أسند "خير نساء العالمين أربع: الطبري بنته: "أنت سيدة نساء أهل الجنة، إلا لفاطمة مريم بنت عمران البتول"، وأنه قال: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال على نساء أمتي، كما خديجة مريم على نساء العالمين" . فضلت "فضلت
وإذا تأملت هذه الأحاديث وغيرها مما هو في معناها، وجدت مريم فيها متقدمة، فسائغ أن يتأول عموم الاصطفاء على العالمين عموما أيضا. وقد قال بعض الناس: إن مريم نبية، قال كانت الملائكة تقبل على ابن إسحاق: مريم فتقول: يا مريم إن الله اصطفاك الآية، فيسمع ذلك زكرياء فيقول: إن لمريم لشأنا، فمن مخاطبة الملائكة لها، جعلها هذا القائل نبية، وجمهور الناس على أنه لم تنبإ امرأة.
و"اقنتي" معناه: اعبدي وأطيعي، قاله قتادة وروى والحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أبو سعيد الخدري ويحتمل أن يكون معناه: أطيلي القيام في الصلاة، وهذا هو قول الجمهور، وهو المناسب في المعنى لقوله: "كل قنوت في القرآن فهو بمعنى طاعة الله" واسجدي واركعي وبه قال مجاهد، وابن جريج، وروى والربيع، أنها لما خوطبت بهذا قامت حتى ورمت قدماها. وروى مجاهد أنها قامت حتى سال الدم والقيح من قدميها. وروي أن الطير كانت تنزل على رأسها، تظنها جمادا لسكونها في طول قيامها. الأوزاعي
[ ص: 219 ] وقد قال "اقنتي لربك" معناه: أخلصي لربك. سعيد بن جبير:
واختلف المتأولون: لم قدم السجود على الركوع؟ فقال قوم: كان ذلك في شرع زكرياء وغيره منهم وقال قوم: الواو لا تعطي رتبة، وإنما المعنى: افعلي هذا وهذا، وقد علم تقديم الركوع، وهذه الآية أكثر إشكالا من قولنا: "قام زيد وعمرو" لأن قيام زيد وعمرو ليس له رتبة معلومة، وهذه الآية قد علم أن السجود بعد الركوع، فكيف جاءت الواو بعكس ذلك؟ فالقول عندي في ذلك أن مريم أمرت بفصلين ومعلمين من معالم الصلاة، وهما طول القيام والسجود، وخصا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة، إذ العبد يقرب في وقت سجوده من الله تعالى، وهذان يختصان بصلاتها مفردة، وإلا فمن يصلي وراء إمام فليس يقال له: أطل قيامك، ثم أمرت - بعد- بالصلاة في الجماعة، فقيل لها: واركعي مع الراكعين وقصد هنا معلم من معالم الصلاة، لئلا يتكرر لفظ، ولم يرد بالآية السجود والركوع الذي هو منتظم في ركعة واحدة، والله أعلم.