قوله عز وجل:
قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون
هذه الآيات توبيخ لليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم و"الكتاب": التوراة، وجعلهم أهله بحسب زعمهم ونسبهم، وإلا فأهله على الحقيقة هم المؤمنون، و "آيات الله" يحتمل أن يريد بها القرآن، ويحتمل أن يراد بالآيات العلامات الظاهرة على يديمحمد صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: والله شهيد على ما تعملون وعيد محض: أي يجازيكم به ويعاقبكم. قال هاتان الآيتان قوله: الطبري: قل يا أهل الكتاب لم تكفرون وما بعدهما، إلى قوله: وأولئك لهم عذاب عظيم ، نزلت بسبب رجل من يهود حاول الإغواء بين الأوس والخزرج، قال حدثني الثقة عن ابن إسحاق: قال: زيد بن أسلم، مر شاس بن قيس اليهودي - وكان شيخا قد عسا في الجاهلية، عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين والحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، وهم في مجلس يتحدثون، فغاظه ما رأى من جماعتهم، وصلاح ذات [ ص: 301 ] بينهم ، بعد ما كان بينهم من العداوة فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد ، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار ، فأمر فتى شابا من يهود ، فقال : اعمد إليهم واجلس معهم وذكرهم يوم بعاث ، وما كان قبله من أيام حربهم ، وأنشدهم ما قالوه من الشعر في ذلك ، ففعل الفتى ، فتكلم القوم عند ذلك فتفاخروا وتنازعوا ، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب : أوس بن قيظي ، أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس ، وجبار بن صخر من الخزرج ، فتقاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددناها جذعة ، فغضب الفريقان ، وقالوا : قد فعلنا ، السلاح السلاح ، موعدكم الظاهرة ، يريدون الحرة ، فخرجوا إليها ، وتحاور الناس على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية ، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين ، فقال: يا معشر المسلمين ، الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ ووعظهم فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان ، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضا من الأوس والخزرج ، وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ، فأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع هذه الآيات . وقال الحسن وقتادة : إن هذه الآيات نزلت في أحبار اليهود الذين كانوا يصدون المسلمين عن الإسلام ، بأن يقولوا لهم : إن والسدي محمدا ليس بالموصوف في كتابنا .قال [ ص: 302 ] القاضي أبو محمد رحمه الله:
ولا شك في وقوع هذين السببين وما شاكلهما من أفعال اليهود وأقوالهم، فنزلت الآيات في جميع ذلك.
وصد معناه: أعرض عن الشيء وانصرف عنه، وهو فعل، يقف ويتعدى بلفظ واحد، تقول: صددت عن كذا، وصددت غيري عنه، فالذي في هذه الآية هو الفعل المتعدي، وقرأ "تصدون"، بضم التاء وكسر الصاد، وهذا هو الفعل الواقف، نقل بالهمزة فعدي. و"سبيل الله" في هذه الآية، هو الإسلام الذي هو طريق إلى رضى الله وجنته، و"من" مفعولة بـ "تصدون"، والضمير في "تبغونها" عائد على السبيل، ومعنى "تبغون" على ما فسر الحسن بن أبي الحسن: الزجاج وغيرهما: تطلبون، فالمعنى: تطلبون لها العوج، أي الاعوجاج والانفساد، تقول والطبري العرب : ابغني كذا "بألف موصولة"، بمعنى اطلبه لي، فإذا أرادوا أعني على طلبه واطلبه معي، قطعوا الألف مفتوحة. وقيل: إن "تبغون" هنا، من البغي الذي هو التعدي، أي: تبغون عليها، ويكون، "عوجا" -على هذا التأويل- نصبه على الحال من الضمير في "تبغون" أي: عوجا منكم وعدم استقامة.
والعوج بكسر العين: ما كان في الأمور والحجج غير الأجرام، والعوج بفتح العين ما كان في الأجرام كالجدار والعصا ونحو ذلك، قال والأرض خاصة من الأجرام يقال فيها: عوج بكسر العين، ومنه قول الله تعالى: ابن قتيبة: لا ترى فيها عوجا ولا أمتا . قال بعض اللغويين: هما لغتان بمعنى واحد. وقوله تعالى: "وأنتم شهداء" يريد جمع شاهد، على ما في التوراة من صفة محمد وصدقه، وباقي الآية وعيد.